في هذا المثال نرى أن الشيخ سليمان عند تخريجه لهذا الحديث، لم يقل كعادته: (هذا الحديث رواه النسائي كما قال المصنف، ولفظه…) بل قال: (رواه النسائي كما قال المصنف، لكن في اليوم والليلة) وهو بهذا يريد أن إطلاق شيخ الإسلام العزو للنسائي مشعر بأنه في (السنن الصغرى) إذ هو المتبادر عند الإطلاق، بينما النسائي أخرجه في (عمل اليوم والليلة)، فكأن الشيخ سيلمان يستدرك في هذا على شيخ الإسلام، وأيضاً يريد الشيخ في تخريجه هذا تنبيه طالب العلم، بأَنَّ كل حديث يقال فيه (رواه النسائي) المراد بذلك (السنن الصغرى) دون (السنن الكبير) أو (عمل اليوم والليلة) إذ هو المصطلح والمُتبادر عليه عند الإطلاق.
وقد نبه على ذلك بعض العلماء قال العلامة المسند محمد بن جعفر الكتاني: «وإذا أطلق أهل الحديث أن النسائي روى حديثاً، فإنما يعنون في السنن الصغرى وهي (المجتبى)، لا في (السنن الكبير) ().
السابع: تعقبه في إيراده لبعض الروايات عقب بعض الأحاديث، وهي واردة في أحاديث أُخرى.
مثاله: أورد شيخ الإسلام حديثاً في كتاب التوحيد، باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه فقال: (ولأحمد عن عُقبة بن عامر مرفوعاً: «من تَعَلَّقَ تَمِيمَة فلا أَتم الله له، ومن تَعَلَّقَ وَدَعَةً ()،فلا وَدَعَ الله له» وفي رواية: «من تَعَلَّقَ تَمَيمَة فقد أشرك»).
قال الشيخ سليمان بن عبد الله: (الحديث الأول: رواه أحمد كما في المصنف، ورواه أيضاً أبو يعلى، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي وقوله: (وفي رواية): هذا يُوهم أنَّ هذا في بعض روايات الحديث المذكور، وليس كذلك، بل المراد أنه في حديث آخر رواه أحمد أيضاً، فقال: حدثنا عبد الصمد بن الوارث ()، ثنا عبد العزيز بن مسلم ()، ثنا يزيد بن أبي منصور ()، عن دُخَيْن الحَجْرِي ()، عن عُقبة بن عامر الجُهني ()، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رَهْطٌ، فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا؟ قال: «إن عليه تَمِيمة» فأدخل يده فقطعها، فبايعه وقال: «من عَلَّقَ تَمِيمة فقد أشرك» ورواه الحاكم بنحوه، ورواته ثقات) ().
قلت: حديث (من تَعَلَّقَ تميمة فلا أَتمَّ الله له، ومن تَعَلَّق وَدَعَةً، فلا وَدَعَ الله له).
أخرجه أحمد ()، وأبو يعلى ()، والحاكم ()، وابن حبان () والطبراني ()، والبيهقي ()، من طريق حَيْوة بن شُريح، عن خالد بن عبيد المَعَاَفِري، عن مِشْرَح بن هَاعان، عن عقبة بن عامر مرفوعاً.
وهذا إسناد ضعيف لجهالة خالد بن عبيد المَعَاَفِرِي، لم يرو عنه غير حَيوة بن شُريح،ولم يوثقه غير ابن حبان ()، ومِشْرَح بن هَاعَان، فيه خلاف، والراجح أنه صدوق حسن الحديث، كما قاله الذهبي ()، ورواه ابن
عبد الحكم ()، عن أبي الأسود النَّضر بن عبد الجبار، عن عبد الله بن لهيعة، عن مشرح بن هاعان به. وابن لهيعة وإن كان سيئ الحفظ، إلا أنه يصلح في المتابعات والشواهد، وهو هنا قد تابع خالد بن عبيد المَعَاَفِرِي.
وقد قال الحافظ بعد كلامه على خالد بن عبيد: (ورجال حديثه موثقون) () وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وسكت الذهبي ()، وقال الهيثمي:
(رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، ورجالهم ثقات) () وقال المنذري: (إسناده جيد) ().
والحديث الراجح فيه أنه حسن.
وأما حديث: (من عَلَّقَ تميمةً فقد أشركَ) فقد أخرجه أحمد () والطبراني () دون قوله «من عَلَّقَ تميمةً فقد أشركَ» والحاكم () بنحوه. من طريق يزيد ابن أبي منصور، عن دُخَيْن الحَجْرِي، عن عقبة بن عامر مرفوعاً.
وهذا إسناد صحيح، وقال الهيثمي، والمنذري: رواة أحمد ثقات (). وقد صححه الشيخ الألباني ().
إن ما تعقب به الشيخ سليمان على شيخ الإسلام، في هذا المثال له وجه من الصحة؛ وذلك أنه إذا ذكر الباحث حديثاً ليستشهد به، ثم قال عقبه مباشرة (وفي رواية) هذا يوهم أن هذه الرواية، هي في بعض هذا الحديث المذكور، وقد يقول قائل: إن بعض أهل العلم قد يُورد في بعض كتبه مثل هذا، ويقصدون حديثاً آخر، لأن هذه الرواية هي في بعض هذا الحديث المذكور، ولعل الإمام محمد بن عبد الوهاب يريد بقوله: (وفي رواية) أي (في حديث آخر).
قلت: نعم قد يسير في مثل هذا بعض أهل العلم، إلا أن الأولى من حيث الصناعة الحديثية، من جهة التخريج ونحوه، أن الباحث، إذا أَورد حديثاً ثم قال عقبه: (وفي رواية) ويقصد بذلك إيراد حديث آخر، عليه في هذا البيان والتصريح؛ لئلا يقع الوهم والاشتباه، وعلى هذا نقول: إن ما تعقب به الشيخ سليمان على شيخ الإسلام، فيه وجاهة من جهة التخريج وطرقه، وهذا يدل على دقة الشيخ، ومعرفته بأُصول التخريج.
انتهى.