"محبنا الأرض وخليلنا الأصفى، العلامة سيدي محمد بن العربي، عليكم السلام ورحمة الله وبركاته-…فالغرض الأهم من سيدي إرسال الكتاب لحامله أولا، وثانيا جوابكم الشافي ونصكم الكافي عن مسألة "الإمالة" .. لأن هذا الأمر طالما أشكل علي، وقد كان أبي- رحمه الله- ينهاني ويزجرني ويغلظ علي القول في صغري عند إبدالي الألف بالياء في سورة "سبح" في "فسوى" و"فهدى" وما أشبه ذلك.
وسبب الإشكال في ذلك أن المعنى يتغير بذلك، كقوله تعالى "مسمى" مثلا "والنار" والجار".
وقد استفدنا من جوابكم أن الإمالة متعذرة، وأن القراءة غير جائزة بها، فإذا تعذرت وجب الرجوع إلى الأصل وهو الأصل، واحتجنا إلى دليل، فإذا وجدتم على ذلك دليلا واضحا ونصا صريحا فأعلمنا بذلك .. والسلام من قصير الباع السائل للإفادة: عبد الرحمن من () تيفرسين".
إن تدبر هذه الرسالة يدلنا على أن موقف العلماء من هذه القضية وإن كان مناوئا لأصحاب الكسر الخالص، فإنه أيضا ليس موافقا لما ذهب إليه الشيخ ابن العربي من ترك الإمالة بالمرة لتعذر النطق بها على وجهها كما ذكره في هذه الرسالة. كما يدل قوله فيها "وقد استفدنا من جوابكم أن الإمالة متعذرة" على أن السائل سبق له أن راسله في ذلك وسبق للشيخ أن أجابه بما لم يشف عنده غليلا، ولذلك أعاد الكرة يطالبه بدعم دعوته بما يشهد لها من دليل واضح ونص صريح، وهذه الرسالة على وجازتها تعطينا صورة عن المستوى الذي عولجت فيه المسألة من جهة البحث والتمحيص، وأنها تحولت إلى موضوع شاغل حاول فيه كل فريق أن يدعم موقفه بما يشهد له ويزكيه.
إلا أن الأمر لم يؤخذ فيما يبدو بعين الجد أو ينظر إليه بروح الإنصاف من لدن كبار المقرئين الذين ربما استشعروا نوعا من الأنفة من الاعتراض عليهم، الأمر الذي زاد في وقود المعركة حتى تحولت إلى ما حكاه السوسي من المناداة على المخالفين في الأسواق وإصدار الفتاوي ببطلان الصلاة خلفهم لمروقهم في تلاوة القرآن كما قدمنا.
ولعلنا لو أتيح لنا الوقوف على أكثر مما وفقنا عليه من آثار هذه الخصوصة وحصادها العلمي لوجدنا سيلا من الرسائل والمؤلفات والمناظرات، ولعل من تتبع ذلك على وجه الخصوص في خزائن مخطوطات هذه الجهة سيقف منه على جانب كبير.
وقد وفقت على إشارة في بعض التراجم في "المعسول" على ما يدل على أن القضية ظلت قائمة لم تحسم، فقد ذكر السوسي- رحمه الله- في ترجمة القاضي السيد موسى بن العربي الرسموكي (1361هـ) أن له جوابا عن سؤال حول جعل الإمالة بإخلاص الكسر، ولعل السوسي قد وقف عليه لأنه قال بعد ما تقدم: "يراجع فهو مفيد" ().
هذا وإن هذه الجهود إنما آتت أكلا محدودا في صرف الناس عما ألفوه بعد أن تمكن في ساحة الإقراء تمكنا بعيدا لا نزال نسمع بقاياه في ألفاظ السوسيين بكلمات معينة منها ما يقرأ لورش بالإمالة الصغرى كالكافرين وكافرين وما يقرأ له بالكبرى وهو الهاء من "طه"، إلا قليلا ممن راجع الصواب وأقلع عما نشأ عليه منذ أن دخل الكتاب.
الفصل الثاني:
مذهب ورش في الإمالة من طريق أبي يعقوب الأزرق
لورش من طريق أبي يعقوب الأزرق مذاهب في الإمالة والفتح تقوم على أصول ثابتة قام علماء القراءة والأداء باستقرائها وافق فيها بعض الرواة عن ورش كأبي الأزهر عبد الصمد العتقي، وخالف بعضهم كأبي بكر الأصبهاني الذي اختص بفتح كل ما أماله الأزرق وعبد الصمد كما قال أبو عبد الله الرحماني في "تبصرة الإخوان في مقرأ الأصبهان":
"وافتح للأصبهاني كل ما ترى من الإمالة وكيف ظهرا ()
وقال غيره:
ليست للاصبهاني من إمالة في سائر الذكر فخذ إفادة ()
فالأخذ بالإمالة هو إحدى السمات البارزة في رواية ورش في التلاوة المغربية أخذا بمذاهبه في ذلك من طريق أبي يعقوب التي درج عليها القراء عندنا، ومذاهبه في ذلك مفصلة في سائر كتب المغاربة تنزيلا على أصوله التي رواها عن صاحب الرواية واستنباطا من القواعد التي تضبطها وتساعد على توجيهها من جهة الصناعة تبعا للأسباب التي بالنظر إلى وجودها يميل أو يفتح، وقد تحدثنا قبل عن تلك الأسباب دون أن نتعرض لمقدار أخذ ورش بها ومراعاتها في مذاهبه في التلاوة، أما الآن فنريد أ، نقف على جملة من السمات العامة والخصائص التي ينفرد بها أو يشارك فيها طائفة من القراء والرواة، وهذه أهمها:
¥