هذا الكلام قاله ابن هشام في رده على ابن مالك إذ زعم أن إيراد الضمير المتصل بعد "إلاَّ" في قول الشاعر [45]:
وما نبالي إذا ما كنتِ جارتَنا
ألاّ يجاورنا إلاَّكِ ديارُ [46]
ليس ضرورة، لتمكن قائله من أن يقول:
ألا يكون لنا خلٌّ ولا جارُ [47]
ثم إن الشاعر قد يتاح له في حرارة التجربة الشعرية غير عبارة عن الفكرة الواحدة، لكنه لا يختار من الألفاظ إلا ما يأنس فيه الملاءمة التامة للمعنى الذي ينشده وإن ساوره قلق فني في دقة لغته، وقدرتها على التعبير عنه. فإذا ثبت هذا وأنه هو واقع الشعر اللغوي فإن التفكير بنفي الضرورة، ومحاولة استبدالها بما لا ضرورة فيه أمرٌ من الصعوبة بمكان على الشاعر، ناهيك عن الناقد اللغوي، والنحوي وذلك لتفاوت القدرات على تخيّل الألفاظ، واستحضارها من المعاجم الذهنية المختلفة في سعتها، وتنوعها، وصفائها [48].
وقد حاول بعض المحدثين [49] الاعتذار لابن مالك بأنه كان يعمل ثقافته، وفكره حين بيّن رأيه في الضرورة الشعرية. فكان يضع في اعتباره لهجات العرب المتباينة، والقراءات القرآنية، والحديث النبوي الشريف بحيث إذا ورد فيها شيء قال النحاة عن نظيره في الشعر إنه ضرورة لم يعدّه هو كذلك، بل يرجع كل ظاهرة إلى أصلها، وأحياناً ينصّ على أنه لهجة قبيلة معينة وضرورة عند غيرهم. فنراه - مثلاً - يقول عن تسكين هاء الغائب واختلاس حركتها: "وقد تسكن أو تختلس الحركة بعد متحرك عند بني عُقَيل، وبني كلاب اختياراً، وعند غيرهم اضطراراً" [50].
وقد ذكر في كتاب "التسهيل" جملة من المسائل يعدّها بعضهم ضرورة ولا يراها هو كذلك كحذف نون الوقاية من "ليس"، و "ليت"، و "عن"، و "قد"، و "قط" [51]، وزيادة "ال" في العلم، والتمييز، والحال [52]، وإسكان عين "مع" [53]، والفصل بينها وبين تمييزها [54]، وتأكيد المضارع المثبت [55]، ومجيء الشرط مضارعاً، والجواب ماضياً [56]، وإجراء الوصل مجرى الوقف [57].
وفي بعض كتبه الأخرى يشير إلى أن بعض الظواهر تكثر في الشعر دون النثر [58].
(ولعله في هذا متأثر بسيبويه. وهذا يشعر بأنهما يدركان أن للشعر نظاماً خاصاً به في صرفه، ونحوه ينبغي أن يدرس وحده منفصلاً عن النثر، ولكن النظرة السائدة إلى وحدة اللغة جعلت هذه الملاحظة تقف عند حدّ الإدراك الذي لم يؤيده التنفيذ العملي) [59].
ثانياً: رأي ابن جني والجمهور:
يرى أبو الفتح عثمان بن جني (392هـ) وكثير من النحويين أن الضرورة ما وقع في الشعر سواء كان للشاعر عنه مندوحة أم لا؟ ولم يشترطوا في الضرورة أن يضطر الشاعر إلى ذلك في شعره، بل جوّزوا له في الشعر ما لم يجز في الكلام؛ لأنه موضع قد أُلفت فيه الضرائر. دليل ذلك قول الشاعر [60]:
كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا
وكريمٍ بخله قد وضَعَهْ [61]
في رواية من خفض "مقرف"، حيث فصل بين "كم" وما أضيفت إليه بالجار والمجرور، وذلك لا يجوز إلا في الشعر، ولم يضطر إلى ذلك إذ يزول الفصل بينهما برفع "مقرف" أو نصبه [62].
ومما استدل به صاحب هذا المذهب - أيضاً - قول الآخر [63]:
فلا مزنةٌ ودقت ودقَها
ولا أرضَ أبقلَ إبقالَها [64]
ألا ترى أنه حذف التاء من أبقلت، وقد كان يمكنه أن يثبت التاء وينقل حركة الهمزة فيقول: أبقلت ابقالها [65].
قال ابن جني في قول الشاعر [66]:
فزججتها بمزجة
زجَّ القلوصَ أبي مزاده [67]
(فصل بينهما بالمفعول به)، هذا مع قدرته على أن يقول:
زجّ القلوص أبو مزاده
كقولك: سرَّني أكلُ الخبز زيدٌ ... فارتكب هاهنا الضرورة مع تمكنه من ترك ارتكابها [68].
وإلى هذا المذهب ذهب كل من الأعلم الشنتمري (476هـ)، والرضي [69] (686هـ)، وأبو حيان، وابن هشام [70]، والبغدادي، والشيخ محمد الأزهري المعروف بـ "الأمير" (1232هـ).
قال الأعلم: "والشعر موضع ضرورة يحتمل فيه وضع الشيء في غير موضعه دون إحراز فائدة ولا تحصيل معنى وتحصينه، فكيف مع وجود ذلك" [71]؟
وقال أبو حيان - في التذييل والتكميل -: "لا يعني النحويون بالضرورة أنه لا مندوحة عن النطق بهذا اللفظ، وإلا كان لا توجد ضرورة؛ لأنه ما من لفظ أو ضرورة إلا ويمكن إزالتها ونظم تركيب آخر غير ذلك التركيب، وإنما يعنون بالضرورة أن ذلك من تراكيبهم الواقعة في الشعر المختصة به، ولا يقع ذلك في كلامهم النثريّ، وإنما يستعملون ذلك في الشعر خاصة دون الكلام" [72].
¥