والقبائل جميعها المتبدية منها والمتحضرة كانت تتحد في نظمها السياسية، وهي نظم قبلية تشترك في تقاليد وأعراف وتتمسك بهما تمسكاً شديداً، الرابط الوحيد بين أفرادها هو العصبية، فيها يجد الفرد الأمن والسلامة في مجتمع لا يؤمن إلا بالقوة حيث لا دولة تحميه، ولا سلطة يتحاكم إليها، والعصبية قبلية ليس فيها شعور واضح بالجنس العربي العام، حتى الإمارات التي تكونت في شمال الجزيرة ظلت تقوم على أساس العصبية القبلية .. ولم ينفذ هؤلاء جميعاً إلى فكرة الأمة العربية أو الجنس العربي بحيث يجمعون العرب تحت لواء واحد، إنما كل ما هنالك اتحاد قبلي له رئيس (38)، مما سنراه في حديثنا عن هذه الإمارات.
وكانت القبائل تعقد الأحلاف مع قبائل أخرى من أجل حروبهم ويضع أفراد القبيلة أنفسهم في خدمتها وخدمة حقوقها وعلى رأسها حق الأخذ بالثأر وكثيراً ما تتكرر الحروب والغارات وهي ما تسمى بأيام العرب ... فكل قبيلة مستعدة دائماً للحرب والإغارة وهلأ دائماً شاكية السلاح، ولذلك كانت الشجاعة والفروسية مثلهم الأعلى.
هذه الصراعات الدامية تشكل قوام حياة العرب السياسية وعلاقاتهم الحربية.
الإمارات العربية في شمال الجزيرة (39):
أقام العرب إمارات لهم في عدد من المناطق، في تخوم الشام حيث أسس الغساسنة إمارة لهم في شرقي الأردن والجولان وأسس المناذرة في الحيرة دولتهم على أطراف بلاد فارس .. ولقد اصطنعت الدولتان الكبريات هاتين الإمارتين لتكونا درعاً واقية لهما ضد غارات الأعراب من القبائل العربية، وكثيراً ما وقعت الحروب بين هاتين الإمارتين لصالح فارس والروم، وبدوافع قبلية أخرى.
(1) لقد كان من ملوك الغساسنة المشهورين الحارث بن جبلة، وكان قد تنصر ثم خلفه ابنه المنذر، ومن ملوكهم الحارث الأصغر، وكانت جيوش الغساسنة تشتبك مع قبائل نجد كبني أسد، وبني فزارة، وقع كثير من أسرى القبيلتين في يد عمرو أحد أبناء الحارث الأصغر، فقصده النابغة الذبياني يمدحه متوسلاً إليه في فكاكهم، ومن روائع مدائحه فيه البائية حيث يقول (40):
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم عصائب طير تهتدي بعصائب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وعمرو هو ممدوح حسان بن ثابت - رضي الله عنه -، وقد كان ينزل به وبغيره من أمراء الغساسنة ومن مدحه فيهم (41):
أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل
(2) أما المناذرة: فقد أقاموا دولتهم في العراق كما عرفنا، حيث رحلت قبائل لخم وتنوخ، واصطنعهم الفرس ليحاربوا بهم عرب الشام أحلاف الروم، ومن أهم ملوكهم المنذر بن ماء السماء (514 - 554م)، وامتد سلطانه على عدد من قبائل نجد وكان له يومان: يوم نعيم، ويوم بؤس، وممن قتل في يوم بؤسه: الشاعر عبيد بن الأبرص، ومقتل المنذر في حربه مع الغساسنة في وقعة عين أباغ عندما سار المنذر في معد كلها إلى الحارث الأعرج ملك العرب بالشام وطلب منه الفدية أو الحرب إلا أن جيوشه هُزمت بعد أن قُتل ولدان الحارث الأعرج، ثم سار الحارث إلى الحيرة وأحرقها بعد نهبها (42)، ثم خلف المنذر ابنه عمرو بن هند، وكان طاغية مستبداً، هجاه الشعراء منهم سويد بن حذّاق حيث يقول (43):
أبى القلب أن يأتي السدير وأهله وإن قيل عيش بالسدير غزير
به البَقّ والحُمّى وأسدُ خفَيةٍ وعمرو بن هند يعتدي ويجور
وقد قتله عمرو بن كلثوم في قصة مشهورة يشير إليها في معلقته (44):
بأي مشيئة عمرو بن هند تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وتوعدنا رويداً متى كنا لأمك مقتوينا (45)
ومن ملوكهم: النعمان الثالث بن المنذر المكنى بأبي قابوس، وقد امتد سلطانه إلى نجد والبحرين وعمان، واشتهر بلطائمه التي كانت إجارتها سبباً في حروب شغلت قبائل قيس ردحاً من الزمن، ويقال: إنه لقي مصرعه على يد كسرى بسبب قتله عدي بن زيد العبادي .. أبو قابوس هو ممدوح النابغة والذي قال فيه اعتذارياته ومنها قوله (46):
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ولا قرار على زأر من الأسد
وبسبب مقتل أبي قابوس وودائعه التي تركها في قبيلة بكر كانت وقعة ذي قار بين بكر وحلفائها وجيوش كسرى من الفرس وحلفائه من قبائل العرب.
¥