وكانوا يأخذون إتاوة من التجار الأجانب إذا ألموا بهم، مما يؤكد زعامة قريش ومكانتها عند العرب، فمكة بيت كعبتهم، وبيت تجارتهم، أقاموا حولها الأسواق التجارية، كسوق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، وكان يعرض فيها الشعر والأدب أيضاً، وفيها - في مكة - دار الندوة، وهو مجلس شيوخ مصغر للنظر في شؤونها الدينية والتجارية، وكان كثير من العرب يرى سادة قريش فوق آل جفنة من الغساسنة إلا أن مجتمعها كان قبلياً على أي حال فهو لا يعدو اتحاد عشائر ارتبط بعضها ببعض في حلف لغرض سدانة الكعبة والقيام على تجارة القوافل ولا سلطان لعشيرة على عشيرة.
كان مجلس دار الندوة ينظر في شؤون مكة ومصالحها حسب قوانين العرب والعادة، وكان للفرد حريته وللجماعة عليه حقوق لا تتناقض مع هذه الحرية (55).
وكانت الطائف مصيفاً جميلاً يصطاف فيه القرشيون حيث الثمرات اليانعة والخمرة الصافية، كانت تنزلها قبيلة ثقيف الوثنية، وكانت حياتهم لا تختلف عن حياة القبائل النجدية البدوية في شيء سوى ما أتاحته لهم زروعهم وثمارهم من الاستقرار على نحو ما استقرت قريش في مكة المكرمة.
أما المدينة المنورة (يثرب) كما كان اسمها فقد سكنها اليهود في القرن الثاني الميلادي على أثر اضطهاد الروم لهم في فلسطين، وظلوا يحتفظون بدينهم واتخذوا العربية لغة لهم في حياتهم اليومية، وظلوا يحتفظون بالعبرية في طقوسهم الدينية، وظهر بينهم عدد من الشعراء أمثال كعب بن الأشرف.
بقي اليهود يسيطرون على المدينة المنورة حتى وفدت عليهم قبائل الأوس والخزرج من اليمن، فأصبحوا هم سادتها الحقيقيين، وكانوا وثنيين يحجون إلى مكة وأصنامها، ويعتمدون على زروع بلدهم وثمارها بينما كان اليهود يعتمدون على الحرف والصناعات وخاصة صناعة الأسلحة.
كانت حياة الأوس والخزرج تشبه حياة البدو مع أنهم سكنوا آطام المدينة يتحاربون على نحو ما تتحارب القبائل البدوية ...
كان اليهود يثيرون نار العداوة بينهم حتى كثرت أيامهم ووقائعهم مثل يوم حاطب ويوم فارع، والبقيع، ويوم بُعاث وغيرها (56).
وأصبحت الحياة بينهم دامية وكأنما تعاهدوا على الفناء لولا أن مَنّ الله عليهم برسوله، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً.
وكان هنالك قرى خاصة باليهود أشهرها خيبر وفدك وتيماء، ومازالوا بها حتى أخرجهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من الجزيرة كلها وظهر من بينهم شعراء أمثال السموآل بن عادياء بتيماء الذي كان معاصراً لامرئ القيس.
ومن المؤكد أن عرب الجاهلية لم يكونوا يطمئنون إلى هؤلاء اليهود جميعاً ولذلك لم يتأثروا بهم في حياتهم الدينية فقد ظلوا بعيدين عنها (57).
هذه صورة عامة لحياة العرب وظروفهم السياسية في الحاضرة والبادية في القبائل والمدن، لم نجد بينها فرقاً يذكر، حيث إن النظام القبلي، هو الذي كان يسود حياتهم وعلاقاتهم كلها.
وسوف نتعرض في الصفحات القادمة إلى الحروب، والأحلاف وعادات الثأر والأسر والسبي والصلح والسلم، والأيام التي كانت حديث مجالسهم وسمرهم.
الحروب في الجاهلية:
أ - أسبابها (58):
إن الصلات القبلية كانت قد أسست على العداء والحروب المتوالية، أو على المحالفة والنصرة.
ولو تساءلنا ما أسباب هذه الحروب؟ وما الدوافع الكامنة وراء قيامها؟ لوجدنا أن الاختلاف على الماء والمرعى بسبب جفاف الصحراء وقلة الموارد من أهم هذه الأسباب، كما حصل في يوم سفوان عندما التقى بنو مازن وبنو شيبان على ماء يقال له سفوان فزعمت كل قبيلة أنه لها (59).
وقد تشتعل الحرب رغبة في السلب والغارة؛ لأن هؤلاء الغزاة جعلوا أرزاقهم في رماحهم، ويصور لنا القطامي (وهو شاعر مخضرم) الفرسان وغاراتهم، وديدنهم في السلب والغارة (60):
وكنّ إذا أغرن على جناب وأعوزهن نهب حيث كانا
وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
وكان الاستيلاء على الغنائم أو الأسرى من الدوافع الأساسية للحروب الجاهلية، ومن وصية أكثم بن صيفي عندما بلغ قومه أن مذحجاً وأحلافهم عازمون على غزوهم:
(البسوا جلود النمر، والثبات أفضل من القوة، أهنأ الظفر كثرة الأسرى، وخير الغنيمة المال) (61).
فالحروب كانت ضرورة أساسية للحصول على العيش ولذلك افتخر الفرسان بجمع الأسرى والغنائم من الإبل وغيرها.
¥