يقول سلامة بن جندل: إن بقاؤه بعيداً عن الغزو، سيؤخره عن جمع الإبل التي لا يسقيها الساقي إلا بعد شق النفس والجهد الجهيد لكثرتها (62):
تقول ابنتي إن انطلاقك واحداً إلى الرّوع يوماً تاركي لا أبا ليا
دعينا من الإشفاق أو قدمي لنا من الحدثان والمنية واقيا
ستتلف نفسي أو سأجمع هجمة ترى ساقييها يألان التراقيا
وقد تثور الحرب بسبب المنافرة بين خصمين سعياً وراء الشهرة والسيادة، فإذا حكم القاضي لأحدهما زاد العداء اشتعالاً، وإذا كان الحكم خبيراً بما سيجره حكمه من تصدع سوي بين المتنافرين كما فعل هرم بن قطبة حينما سوّى بين عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامريين.
وقد تشتعل الحرب نصرة لقريب وإن كان ظالماً أو مظلوماً، على الحقيقة وليس على المجاز من نصح أخيه وفي ذلك نصرته، وربما عير الشاعر قبيلته من جراء تخليها عن نصرته، قال قريط بن أنيف، وكان بعض بني شيبان أغار على إبله، فاستنجد بقومه فلم ينجدوه لجأ عندها إلى بني مازن من قبيلة تميم فأنجدوه (63):
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذاً لهبّ لنصري معشر خشن عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا شدوا الإغارة فرساناً وركبانا
وقد تقوم الحرب لأسباب أخرى منها إجازة المستجير أو حماية الجار كما حصل في حرب سُمَير بين الأوس والخزرج.
وربما نشأت الحرب بسبب الدفاع عن العرض، أو الأخذ بالثأر، أو بسبب المنافسة على رئاسة وزعامة، وقد تجر المنافسة الطائشة إلى ويلات وحروب وتكون الأسباب تافهة كما حصل في حرب البسوس الشهيرة بين بكر وتغلب حيث قتل كليب على يد جساس ولا ننسى حرب داحس والغبراء، التي استمرت أربعين سنة، بسبب سباق بين فرسين.
ومن الحروب الشهيرة حروب الفجار، وكلها نشأت لأسباب واهية مما ستجد نماذج عنها في حديثنا عن أيام العرب بإذنه تعالى.
ويوجز الألوسي أسباب القتال والحروب عامة حيث يقول:
(وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة، وإما عدوان، وإما غضب لله ولدينه، وإما غضب للمُلك وسعي في تمهيده، فالأول أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة، والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم لأنه جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم .. والثالث وهو المسمى في الشريعة بالجهاد، والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها .. ) (64).
ب - الحروب الطاحنة وأثرها على موضوعات الشعر المختلف:
لعل أهم ما يميز حياة العرب في الجاهلية، أنها كانت حياة حربية تقوم على سفك الدماء .. حتى لكأن إراقة الدم أصبحت سنة من سنتهم، فهم دائماً قاتلون مقتولون لا يفرغون من دم إلا إلى دم.
وكانت الحروب تبدأ صغيرة ضعيفة ثم تقوى ويصطلي الجميع بنارها، بل يترامون فيها ترامي الفراش فيه أمنيتهم ومبتغاهم (65).
يقول زهير بن أبي سلمى (66):
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل (67)
فإن يُقتلوا فيُشفى بدمائهم وكانوا قديماً من مناياهم القتل
فجميعهم يطيرون إلى المستغيث بخيلهم ورماحهم، وتدور رحى الحرب فيقتلون من أعدائهم ويشفون حقدهم ويقتل منهم أعداؤهم ويشفون غليلهم، يقول دريد بن الصمة (68):
وإنا لَلَخمُ السيف غير نكيرة ونلحمه حيناً وليس بذي نكر
يغار علينا واترين فيُشتفى بنا إن صبنا أو تُغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا فما ينقضي إلا ونحن على شطر
ومثل قبيلة دريد قبائل العرب جميعها فهم طعام السيوف وهم دائماً واترون موتورون.
وما كانوا يرهبون شيئاً مثل الموت حتف الأنف بعيداً عن ميادين القتال، ميادين الشرف والبطولة، حيث تتناثر أشلاؤهم وتأكلها السباع، يقول الشنفري (69):
فلا تقبروني إن قبري محرم عليكم ولكن أبشري أمّ عامر
فهو يتمنى ألا يقبر ويبشر الضبع بجسده حتى يخلد في سجل قتلى الجاهلية.
إن طبيعة العربي في باديته، من حبه للحرية، وتعشقه للقوة، وتفضيله الموت تحت صليل السيوف على حياة الذل والضيم، جعلت حياته حرباً ضروساً لا تهدأ، يقول الأفوه الأودي:
¥