السِّين هنا للطلب؛ أي: أنه طلبَ زلَلهم، حتى ظفِر به؛ فالدلالة على الطلب مستفادة من الدلالة الوضعية، والدلالة على حصول الطلب من لوازم الطلب التي أقرَّتها العرب؛ فأصبح إذا قيلَ: (استزلَّه)، دلَّ على سعي شديد، ومسارعة دائبة، ومكر كُبَّار في إيقاع هذا المعنَى، ودلَّ أيضًا على حصوله. وهو في الآية أبلغُ من (أزلَّهم)، لما فيه من تصوير حال الشيطان مع ابن آدمَ.
فأما قوله تعالى في سورة «البقرة»: ((فأزلَّهما الشيطان عنها))، فذلك أنه ذكرَ قصتَه في هذا الموضع موجَزةً؛ فبيَّن أنه أمرَ آدمَ عليه السلام، وزوجَه بألا يقربا الشجرةَ، وأن الشيطانَ أوقعَهما في المعصية، وأنهما أهبِطا إلى الأرض. وتركَ التفصيلَ، والبسطَ إلى سورة الأعراف، وهناك ذكر ما حاولَه الشيطان من مختلِف الأسباب لإضلالِهما، وما جرَى من الحوار في خبرِهما. فكانت البلاغة ألا يقولَ: (فاستزلَّهما الشيطان عنها))، لأنَّ في ذلك تفصيلاً بذكر محاولة الشيطان، وسعيِه. وهو غير مناسب لمقام عرضِ القصة في هذا الموضعِ، من قِبَل أنه مبنيّ على الإيجازِ. والبلاغة أن تأتلِف أجزاء الكلام، وتأتي على وَفق الحالِ.
3 - قوله تعالى: ((كالذي استهوته الشياطين)).
السين فيها للدلالة على الطلبِ، وحصولِه؛ أي: طلبت هُوِيَّه؛ أي: سقوطه في الضلال، والغَواية، أو: طلبت نزوعَه إليها، مِن (هوَى إلى الشيءِ)، كما قال تعالى: ((فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم))، أو: طلبت هواه، ومحبَّتَه، من (هوِي الشيءَ هوًى).
4 - قوله تعالى: ((فإن استقرَّ مكانه)).
لا يرَى أهل التصريف، وأهل اللغة فرقًا بين (استقرَّ)، و (قرَّ). ولعلَّ بينهما فرقًا؛ وهو أن يكون (استقرَّ) بمعنى: أقامَ على نية اللُّبث. وهذا معنًى آخر من معاني (استفعل)، و (قرَّ) لا تفيد إلا مطلقَ الإقامة.
5 - قوله تعالى: ((فاستمِعوا له وأنصتوا)).
(الاستماع) (افتعال)، وليس (استفعالاً)؛ وهو: إدراك للصوت مع إنصات؛ وانظر مفتتح سورة الجنِّ في قوله تعالى: ((قل أوحيَ إليّ أنه استمع نفرٌ من الجنِّ فقالوا إنا سمِعنا قرآنًا عجبًا))؛ فأخبرَ عن إدراكهم للقرآن، وإنصاتِهم إليه، ثم أخبرَ أنهم لما رجعوا إلى قومهم، أخبروهم بالسَّماع؛ إذ كانَ الغرض يتعلَّق بهذا، ولم تكن حاجة تدعو إلى ذكر الإنصات. وهذا من بديع بلاغة القرآن في مراعاة الأحوالِ، والمقامات.
وقال تعالى: ((وإذا سمِعوا اللغو أعرضوا عنه)). وفي ذلك أنهم لا يدَعون اللغو ينفذ إلى قلوبِهم، ولا يبلغُهم منه إلا بمقدار ما يمرّون به.
وقال تعالى: ((ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدَث إلا استمعوه وهم يلعبون)). وهذا أقوَمُ للحجة عليهم، وأدعَى للتشنيع عليهم، لأن إنصاتَهم للقرآن، ومعرفتهم بزواجره، ونواهيه لا تردُعُهم عن الاسترسال في اللعب، واللهو. ولو كانوا سمعوه سماعًا مجرَّدًا، لكان وجه العذر لهم أبينَ.
وإنما دلَّ هذا البِناء على هذا المعنَى، لكونه متعديًا. وإذا كان (افتعل) متعديًا، كثر مجيئه لذلك، كـ (اكتسبه)؛ فهي غيرُ (كسَبه)؛ وزيادة المبنَى دالَّة غالبًا على زيادة المعنَى، أو اختلافِه.
6 - قوله تعالى: ((إن استحبُّوا الكفر على الإيمان)).
السِّين فيها دالّة على تمكُّن الحبِّ، ولُبثه، كمعناها في (الاستقرار). وكلاهما منشقان عن المعنَى الصوتيِّ للسينِ – وقد تقدَّم بيانه -.
7 - قوله تعالى: ((ثم استخرجهَا من وعاء أخيه)).
معنى السين هنا كمعناها في (استزلَّهم)، و (استهواه)؛ أي: أنه جعلَ يعالج إخراجها، حتى أخرجَها بعدَ لأيٍ؛ كأنه أراد أن يباعد عن نفسِه التهَمة؛ فلم يخرجها، فِعْلَ من يعرِف مكانَها؛ وإنما أظهر لهم جهلَه بذلك.
8 - قوله تعالى: ((فلما استيأسوا منه خلصوا نجيًّا)).
معنى (الاستيآس) هنا كمعناه في (الاستقرار)، و (الاستحباب)؛ أي: أنهم استيأسوا بالغ الاستيآس، حتى تمكَّن من نفوسهم.
وقد رأيتَ أن هذه الأفعالَ تدور على معنيين:
1 - معنى (الطلب)، وحصوله. وهو قياسيّ.
2 - معنى (التمكُّن). وهو مقصور على السماع.
وللاستفعال أيضًا معانٍ أخرُ لم ترِد في ما سلفَ من الأمثلة.
¥