" وأمّا اعتياد الخطاب بغير اللّغة العربية - الّتي هي شعار الإسلام ولغة القرآن - حتّى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، أو لأهل الدّار، أو للرّجل مع صاحبه، أو لأهل السّوق، أو للأمراء، أو لأهل الدّيوان، أو لأهل الفقه، فلا ريب أنّ هذا مكروه، فإنّه من التشبّه بالأعاجم، وهو مكروه كما تقدم. ولهذا كان المسلمون المتقدّمون لمّا سكنوا أرض الشّام ومصر ولغةُ أهلِهما روميّة، وأرضَ العراق وخراسان ولغةُ أهلهما فارسيّة، وأهل المغرب ولغة أهلها بربرية، عوّدوا أهل هذه البلاد العربيَّةَ حتّى غلبت على أهل هذه الأمصار، مسلمِهم وكافرِهم، وهكذا كانت خراسان قديما، ثمّ إنّهم تساهلوا في أمر اللّغة واعتادوا الخطاب بالفارسيّة حتّى غلبت عليهم، وصارت العربيّة مهجورةً عند كثير منهم، ولا ريب أنّ هذا مكروه، وإنّما الطّريق الحسن اعتيادُ الخطاب بالعربيّة حتّى يتلقّنَها الصّغار في الدّور والمكاتب، فيظهر شعارُ الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهلَ على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنّة، وكلامِ السّلف، بخلاف من اعتاد لغة ثمّ أراد أن ينتقل إلى أخرى، فإنّه يصعب عليه .. ".
كلّ ذلك-أخي القارئ- لأنّ الظّاهر يؤثّر على الباطن كما هو مقرّر في الشّريعة، فلا يتحدّث المرء بلغة قوم ولا تلزمه إلاّ إذا لزمته وعلِقت به أفكار أهلها ومبادؤهم، قال يحيى بن معاذ رحمه الله: ((القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها)).
وقد صفّق النّاس حتّى اهترت أيديهم، وأثنوا حتّى بُحّت أصواتهم، عندما قال ديكارت الفيلسوف المعروف: (إنّ اللّغة تؤثّر على الفكر)، مع أنّ علماءنا صرّحوا بذلك قبله بزمن، قال شيخ الإسلام رحمه الله:
" واعلم أنّ اعتياد اللّغة يؤثّر في العقل والخلق والدّين تأثيرا قويّا بيِّناً، ويؤثّر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمّة من الصّحابة والتّابعين، ومشابهتُهم تزيد العقل والدّين والخلق، وأيضا فإنّ نفس اللّغة العربيّة من الدّين ومعرفتها فرض واجب، فإنّ فهم الكتاب والسنّة فرضٌ، ولا يُفهم إلاّ بفهم اللّغة العربيّة، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، ثمّ منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية ... "اهـ[9]
لذلك ما زال العلماء ينكرون التحدّث بغير العربيّة من غير حاجة، وعدّ الشّيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله ذلك من الأخطاء الشّنيعة، ففي " معجم المناهي اللّفظيّة " ذكر من أنواع الألفاظ الّتي ينبغي إزالتها والبعد عن حياضها: " مصطلحات إفرانجية، وعبارات وافدة أعجميّة، وأساليب مولّدة لغة، مرفوضة شرعاً، وحمَّالة الحطب في هذا صاحبة الجلالة: (الصّحافة)، فَلِجُلِّ الكاتبين من الصّحفيين ولعٌ شديد بها، وعن طريقهم استشرت بين المسلمين " اهـ.
فأدعو إخواني وأخواتي أن نفتح صفحة جديدة في حياتنا مع اللّسان، فنعوّده الكلام بلسان النبيّ العدنان، ونُجّنّبه اللّسان الأعجميّ إلاّ لحاجة، فمن عجز فليعلم أنّ في العامّية غُنية عن الأعجميّة، وهذا ما جاءت هذه المقالات لبيانه.
(حرف التّاء)
(تَمََّه)
واضحٌ -لا شكّ في ذلك- أنّ المتكلّم بها يعلم أنّها كلمة عربيّة بمعنى (هناك)، وهي للإشارة إلى المكان البعيد، قال ابن منظور رحمه الله في " لسان العرب ": " وثَمَّ بمعنى هناك وهو للتبعيد، بمنزلة هنا للتقريب، قال أَبو إِسحق: ثَمَّ في الكلام إِشارة بمنزلة هناك زيد وهو المكان البعيد منك ... وثَمَّتَ أَيضاً بمعنى ثَمَّ " اهـ.
قال ابن مالك رحمه الله:
وبهنا، أو ههنا أَشِر إلى داني المكان وبه الكافَ صلا
في البعد وبثمَّ فُهْ، أَو هَنّا أو بهنالك انطِقن أو هِنّا
أي: فُهْ وانطِق إذا أردت الإشارة إلى البعيد بـ: (هناك) و (ثَمَّ) الخ ..
وممّا سبق بيانه ندرِك أنّ بني قومنا قد أحسنوا إذ استعملوا هذه الكلمة، ولكنّهم أخطئوا حين مسخوا الثّاء إلى تاء، وتصرّفوا في حروف الهجاء. وهي ظاهرة معروفة عند أهل المدن والعاصمة خاصّةً، تراهم تأثّروا بالمدنيّة والرّفاهيّة حتّى استوحشوا النّطق بالحروف على وجهها، لا يبذلون جهدا ليخرِجوا الثّاء من مخرجها، فلا تكاد تسمع أحدهم ينطق بالثّاء، فيقول: تْلاَتَة بدلا من ثلاثة، وتَلْج بدلا من ثلج، وعُتْمان بدلا من عثمان، وتُوم بدلا من ثُوْم، وتَمَّه بدلا من ثمّة ..
¥