وأنا أكتب وفي يدي كتاب قديم لبول منجيون ( paul mangion) في اللهجة الجزائرية، وهو مقرر التعليم في السنة الأولى ثانوي بالجزائر في الفترة الاستعمارية، ومطبوع في دار باكوني 4 حي باريس الجزائر العاصمة، فإن أردت الاستزادة من رصيدك اللغوي فأنا مستعد لأعيركه (باش نسلفهلك).
قلت أخي الكريم: (وإن شاء الله تعالى يتغير هذا المُّر و يبدل الشين بالزين، بالمُحفِّز لا بالمُحقِّر). غريب أمر الإصلاح والتحفيز عندنا فعوض أن تنصب الجهود على إحياء ما اندثر من موءود لغتنا وتصحيح ما حرف ومسخ وشوه، صار البعض يقرر عروبة اللغة الأمازيغية!، والبعض يقرر أن اللهجة جانب حيوي من جوانب حياة اللغة العربية وصورة من صور تطورها!، وجماعة يقولون إن العامية ما هي إلا فرع من دوحة العربية أغفلتها يد التشذيب والتهذيب!، والبعض يقول إن اللهجة انحدرت من أصل قديم يعود إلى اللهجات العربية المعروفة والتي تكلمت بها القبائل العربية قبل الإسلام وبعده!، ونفر يقولون إن غالب ألفاظ دارجتنا عربي فصيح! ثم جاء آل شطارة فطم الوادي على القرى وقال ـ وهو في نشوة الحسن انتهى للجزائر كما في توقيعه ـ: (الدارجة الجزائرية لسان عربي). وفي المثل رب كلمة تقول لصاحبها دعني.
ومن غريب ما وقفت عليه في شأن الإصلاح والتحفيز كلام بعض الفضلاء الجزائريين قال: ((فإنّنا نقول اليوم: تكلّموا بأيّ لهجة وعلى أيّ وجه على أن تكون عربيّة الأصل!)).
وفي هذا الإطار نشط الكثير في بيان عربية جملة من الكلمات العامية ولو بالتعسف في الاشتقاق والإبدال، ولي أعناق قواعد اللغة وتتبع الشواذ والضعيف والمستهجن ومرذول الكلام. ولو تتبعت صنيعهم لجمعت كتابا اسمه "تنزيه الفصيح عما نسب إليه من العامي الرزيح"، ولكن أكتفي ببعض الأمثلة رجوت أن تدل على ما وراءها مما في مثل معناها.
ذكر بعضهم كلمة (بزاف) والتي تعني في اللهجة الجزائرية كثير، قرأت لبعضهم أن أصلها قد يكون (بجُزاف) أي بكثرة أو تجاوز ـ فانقلبت إلى بزّاف!
وكلمة (إيوَه) التي تقال في الجواب عندنا ذكروا أن الأصل فيها كلمة (إي) بمعنى نعم، ثم وصل بواو القسم فقالوا (إيوَ) ثم زادوا عليه هاء السكت لإبراز القسم المؤكد، وذلك عن طريق بيان الحركة التي على الواو. هكذا بمثل هذه الطريقة الغريبة تأصل اللهجات وترد إلى رحاب الفصيح!.
وهنا تذكرت واقعة طريفة حصلت لبعض إخواننا من طلبة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية حيث أنكر أحد المصريين على الجزائري كلمة قالها، فأصر الجزائري على أنها عربية، فقال المصري: هذه ليست عربية هذه أتوبيس!.
وعلى تسليم أن أكثر الكلمات في اللهجة الجزائرية ذات أصول عربية العربية فإنها مستعملة في معانٍ بعيدة عن المعنى الأصيل والمجازي للكلمة، فمثلا يقال عندنا (ضرب الشوا) بمعنى أكل الشواء، وما أدري هل توجد منزلة بين الحقيقة والمجاز حتى نجد تخريجا لهذا الاستعمال.
ويحاول الكثير ربط المعاني الغريبة بتأويلات بعيدة وتخريجات متكلفة وأذكر لك مثلا كلمة (قرفع) قال أخي آل شطارة في مقاله الكلمات العربية في الدارجة الجزائرية: ((تَقَرْفَعَ تَقَبَّضَ (لسان العرب مادة قرفع) وتستعمل هذه اللفظة في الدارجة دليلا على شدة الضربة يقال:لأن (قرفعو) أي ضربه ضربة شديدة، ولعل العلاقة بين المعنى العامي واللغوي أن شدة الضربة جعلته ينقبض من الوجع أو نحو ذلك)). وهكذا بمثل هذا التعليل الذي يجعلك تنقبض تخرج المعاني وتأسس العلائق.
ثم إن هذه الكلمات ذات الأصول العربية دخلها التحريف فإنك لا تجد كلمة إلا وقد تهاوت من أطرافها وتغير شكل الفاء والعين واللام من بنيتها، وسلط عليها الحذف والزيادة والقلب والإبدال والنحت وما شاكل حتى يخفى الأصل. وفي بيان ذلك يقول الأستاذ المعلوف عضو مجمع اللغة العربية بمصر في مقال اللهجة العربية العامية: ((فترى لذلك لغة العامة بعيدة عن الأم الفصحى بمراحل، حتى يصعب أحيانا على علماء الاشتقاق (الفيلولوجيين) رد ألفاظها إلى نصابها أو طلبها من مظانها، أو معرفة مصادرها وآفاتها)).
وأما الإعراب فأضحى غريبا في دارجة قومك ولا تجده إلا في كتب النحو وفي دروس الآجرومية وفي خطب الجمعة وفي بعض المحاضرات والجامعات والمجامع العلمية وفي ألسنة بعض طلبة العلم. وقد أدى ترك الحركات الإعرابية إلى تغير وعجمة بنية الجملة كلها.
وأما النطق فقل ما شئت فيه واحتكم؛ إذ صار الحرف العربي عندنا ينطق بمخرج وصفات تشبه ما يقابله في اللغة الفرنسية فـ (الفاء) صارت تنطق ( f) وحرف (البا) صار ( b) وهكذا.
وفي مقال أخي عبد الحليم توميات "البيان والتّوضيح لما في العامّية من الفصيح" تنبيهات ونكت نفيسة في بيان الخلل الداخل على الكلمات التي أصلها عربي في دارجتنا.
أخي آل شطارة إن الشهادة على عربية الكلام تتوقف على كون المفردات عربية حقيقة لا ادعاء، وعلى أصالة المعاني، وصحة التركيب، وصحة التصريف والاشتقاق، وصحة النطق، ومراعاة الإعراب. ولو اطلعت على كتاب الأستاذ شوقي ضيف "تحريفات العامية للفصحى في القواعد والبنيات والحروف والحركات" لرجعت عن قولك ولنقص إيمانك.
وحملا لكلامك على أفضل الوجوه ندعي أن القصد من قولك إن لغة الجزائري: (لسان عربي) خبر يراد به الطلب، بمعنى أن المطلوب من الجزائري أن يكون لسانه عربيا، وهو مقصد جميل بل أولوي في حقل الإصلاح لابد أن نسعى جميعا للتمكين له، فاللسان العربي شعار الإسلام وأهله.
ردّوا إلى لغة القرآن رونقها هيّا إلى نصرها في جحفل لّجِبِ
ونسأل الله أن يكون ذلك قريبا ولنا الأمل الوطيد في تحقق ذلك، وما ذلك على الله بعزيز والله ولي التوفيق.
¥