فمن الملاحظ هنا أن الدكتور الهلابي يتعامل مع الأحاديث النبوية كما يتعامل
مع الروايات التاريخية، فيقبل ويرفض، ويعلل ويجرح حسب اجتهاده الشخصي،
مع العلم أن مصطلح الحديث فن جليل وخطير بلغ من الدقة والإحكام أرقى ما يمكن
أن تصل إليه الطاقة البشرية، فأحكامه ومصطلحاته ذات دلالة واضحة ومحددة لا
تقبل التلاعب فيها، ولذلك يكون الحديث إما صحيحاً وإما ضعيفاً وإما موضوعاً،
وفق الموازين النقدية للرواية.
وبما أن الأحاديث هي غير الروايات التاريخية، فينبغي للتثبت من صحتها
أن يتم الرجوع إلى العلماء المختصين في علم الحديث النبوي.
وحديث الحوأب حديث صحيح قال عنه الحافظ ابن كثير: إسناده على شرط
الصحيحين [54]، وقال الحافظ الذهبي: هذا حديث صحيح الإسناد [55] وقال
الحافظ بن حجر في الفتح: أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار وصححه ابن حبان
والحاكم، وسنده على شرط الصحيح [56].
ورواية الحديث كما نقلها الإمام أحمد: (حدثنا عبد الله، حدثني أبي حدثنا
يحيى عن إسماعيل، حدثنا قيس قال: لما أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلاً،
نبحت الكلاب، قالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، قالت: ما أظنني إلا
راجعة، فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله عز
وجل ذات بينهم، قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال لها ذات يوم:
كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب! [57].
ثامناً - الطبري سمى السبئية:
يقول الدكتور الهلابي: إن الإمام الطبري لم يسم طائفة عبد الله بن سبأ سبئية،
وإنما وضع هذه التسمية سيف بن عمر لتنسجم مع رواياته حول ابن سبأ ودوره
في الفتنة [58].
لقد فات المؤلف بأن الإمام الطبري ذكر السبئية في تفسيره جامع البيان عند
شرحه لقوله تعالى:] فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة
وابتغاء تأويله [[ال عمران: 7]، يقول: وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا
أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معني بها كل مبتدع في دين الله ... كان من
أهل النصرانية أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سبئياً أو حروريا أو قدرياً أو
جهمياً، كالذي قال ص: فإذا رأيتم الذين يجادلون فهم الذين عنى الله
فاحذروهم [59].
تاسعاً - منهج المستشرقين غير مسلم له على الإطلاق:
يبدو جلياً أن الدكتور الهلابي تأثر بأفكار بعض المستشرقين الذين لا يقرون
بوجود ابن سبأ، إذ نحا منحاهم في إثارة الشكوك حول شخصيته ويقول: بأن
هؤلاء نالوا قصب السبق في إثارة قضية عبد الله بن سبأ [60].
لكن يا ترى إذا كان المستشرقون قد سبقوا الباحثين العرب إلى دراسة
شخصية ابن سبأ، فهل نحن ملزمون بالتسليم بكل ما كتبوه في هذا الصدد؟
إن المستشرقين كغيرهم من البشر معرضون لعوامل السهو والخطأ، ومنهم
من يشتط في نظرته، ويحمل في نفسه من الأهواء والرغبات ما يجعله يفرض
آراءه المسبقة على النصوص، ويتعسف في تأويلها نظراً للعداء التاريخي في نفسه
للإسلام والمسلمين.
ثم لا يخفى أن المستشرقين الذين أنكروا وجود السبئية كان هدفهم من ذلك
التشكيك والإنكار هو إدعاء أن الفتن إنما هي من عمل الصحابة والمسلمين أنفسهم،
وأن نسبتها إلى اليهود أو الزنادقة هو نوع من الدفاع لجأ إليه الإخباريون والرواة
المسلمون ليعلقوا أخطاء هؤلاء الصحابة على عناصر أخرى، فيقول أحد هؤلاء
المستشرقين: بأن ابن سبأ ليس إلا شيئاً في نفس سيف أراد أن يبعد به شبح الفتنة
عن الصحابة وإنها إنما أتت من يهودي تستر بالإسلام [61].
عاشراً - ثبوت أخبار ابن سبأ:
إذا افترضنا جدلاً أن الروايات والأخبار المتعلقة بابن سبأ غير صحيحة ومن
نسج الخيال، فكيف يعقل أن يسكت عنها العلماء الأقدمون ولا ينتقدوها، وهم الذين
أصّلوا منهجاً علمياً دقيقاً في نقد الرجال وتتبع أحوالهم!
هذا وقد أثبت كثير من العلماء والرواة في كتبهم خبر ابن سبأ، ولم يُستدرك
عليهم في هذا الشأن إلا ما كان من بعض الباحثين المعاصرين الذين أطلقوا لأنفسهم
العنان للخوض في هذا الموضوع بغير سند أو أثرة من علم فأساؤوا بذلك إلى أسس
البحث العلمي التي يدعون أنهم أهلها بغير دليل.
حادي عشر - رأي بلا مصدر أو دليل:
الغريب في الأمر أن الدكتور الهلابي رغم تأكيده على أن شخصية ابن سبأ
¥