وقال ابن بطال - رحمه الله تعالى -: «الإثم وإن كان ساقطاً عن المجتهد
في الحكم إذا تبين أنه بخلاف جماعة أهل العلم، لكن الضمان لازم للمخطئ عند
الأكثر؛ مع الاختلاف: هل يلزم ذلك عاقلة الحاكم أم بيت المال؟»، قال الحافظ
ابن حجر متعقباً قول ابن بطال - رحمهما الله تعالى -: «والذي يظهر أن التبرؤ
من الفعل لا يستلزم إثم فاعله ولا إلزامه الغرامة؛ فإن إثم المخطئ مرفوع وإن كان
فعله ليس بمحمود» [11].
وكذلك قتله - رضي الله عنه - لمالك بن نويرة اليربوعي، وملخص خبره:
أن مالكاً صانع سَجَاحاً التميمية التي ادعت النبوة، ثم ندم مالك على ما كان منه،
وقصد خالد البطاح وعليها مالك، فبث خالد السرايا في البطاح يدعون الناس،
فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة، وبذلوا الزكوات، إلا ما كان من مالك بن
نويرة فإنه متحير في أمره، متنحٍّ عن الناس، فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه
أصحابه، واختلفت فيهم السرية؛ فشهد أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري أنهم
أقاموا الصلاة، وقال آخرون: إنهم لم يؤذِّنوا ولا صلوا، فيقال: إن الأسارى باتوا
في كبولهم في ليلة باردة شديدة البرد، فنادى منادي خالد أن دفئوا أسراكم، فظن
القوم أنه أراد القتل فقتلوهم ... فلما بلغ ذلك خالداً قال: إذا أراد الله أمراً أصابه.
وقيل: إن خالداً استدعى مالك بن نويرة فأنبه على ما صدر منه من متابعة سجاح،
وعلى منعه الزكاة، وقال: ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟ فقال مالك: إن صاحبكم
كان يزعم ذلك. فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟! يا ضرار! اضرب عنقه،
فضُربت عنقه، وأمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدراً، فأكل خالد
من القدر تلك الليلة؛ ليرهب بذلك الأعراب من المرتدة وغيرهم. واعتذر خالد من
فعلته تلك بمالك لأبي بكر لما استدعاه، فعذره أبو بكر، وتجاوز عنه ما كان منه
في ذلك، وودى مالك بن نويرة [12].
السبب الثاني: أن عمر - رضي الله عنه - عزل خالداً - رضي الله عنه -
لما كان ينفق من أموال الغنائم دون الرجوع إلى الخليفة، كما روى الزبير بن بكار
- رحمه الله تعالى - قال: «كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم،
ولم يرفع إلى أبي بكر حساباً، وكان فيه تَقَدُّمٌ على أبي بكر، يفعل أشياء لا يراها
أبو بكر».
ونقل الزبير بن بكار عن مالك بن أنس قوله: «قال عمر لأبي بكر: اكتب
إلى خالد لا يعطي شيئاً إلا بأمرك. فكتب إليه بذلك، فأجابه خالد: إما أن تدعني
وعملي، وإلا فشأنك بعملك. فأشار عليه عمر بعزله، فقال أبو بكر: فمن يجزئ
عني جزاء خالد؟ قال عمر: أنا. قال: فأنت. فتجهز عمر حتى أنيخ الظهر في
الدار، فمشى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكر فقالوا: ما شأن
عمر يخرج وأنت محتاج إليه؟ وما بالك عزلت خالداً وقد كفاك؟ قال: فما أصنع؟
قالوا: تعزم على عمر فيقيم، وتكتب إلى خالد فيقيم على عمله. ففعل، فلما
تولّى عمر كتب إلى خالد أن لا تعطِ شاة ولا بعيراً إلا بأمري، فكتب إليه خالد بمثل
ما كتب إلى أبي بكر. فقال عمر: ما صدقتُ اللهَ إن كنت أشرت على أبي بكر
بأمر فلم أنفذه. فعزله، ثم كان يدعوه إلى أن يعمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما يشاء،
فيأبى عمر» [13].
ويؤيد ذلك ما نُقل عن عمر من قوله: «إني ما عتبت على خالد إلا في تقدمه،
وما كان يصنع في المال» [14].
وذكر الحافظ ابن كثير ذلك فقال: «وقيل: عزله؛ لأنه أجاز الأشعث بن
قيس بعشرة آلاف، حتى إن خالداً لما عُزل ودخل على عمر سأله: من أين لك هذا
اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف؟ فقال: من الأنفال والسهمان» [15].
ويؤيده ما رواه الإمام أحمد بسند جيد، أن عمر - رضي الله عنه - اعتذر
من الناس في الجابية فقال: «وإني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد: إني أمرته أن
يحبس هذا المال على ضَعَفَة المهاجرين فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللَّسَانة،
فنزعته وأمَّرت أبا عبيدة» [16].
السبب الثالث: أن عمر عزل خالداً - رضي الله عنهما - خشية افتتان الناس
به؛ فإن خالداً - رضي الله عنه - ما هُزم له جيش لا في الجاهلية ولا في الإسلام،
وقد جمع الله تعالى له بين الشجاعة والقوة والرأي والمكيدة في الحرب، وحسن
¥