التخطيط والتدبير والعمل فيها، وقلَّ أن تجتمع هذه الصفات في شخص واحد.
ويدل على ذلك ما يلي:
1 - أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى الأمصار: «إني لم أعزل خالداً
عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فُتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع»
[17].
2 - ما رواه سيف بن عمر أن عمر - رضي الله عنه - قال حين عزل
خالداً عن الشام، و المثنى بن الحارثة عن العراق: «إنما عزلتهما ليعلم الناس أن
الله تعالى نصر الدين لا بنصرهما، وأن القوة لله جميعاً» [18].
3 - قول ابن عون: «ولي عمر فقال: لأنزعنَّ خالداً حتى يُعلم أن الله
تعالى إنما ينصر دينه. يعني بغير خالد» [19].
فقد يكون عزله لسبب من هذه الأسباب، أو لها مجتمعة، ورأى عمر
- رضي الله عنه - المصلحة في عزله.
وأما تَقَدُّمُ خالدٍ على الخليفة، ودفعه للأموال دون مراجعته فقد كان اجتهاداً منه
- رضي الله عنه -، ولعله رأى تأليف قلوب من يعطيهم، ولا سيما أنه كان
- رضي الله عنه - خبيراً بالحرب، عارفاً بمكايد عدوه، فلا يُظن به إلا أن يعطي
من ينتفع الإسلام بإعطائه، أو يكفي الإسلام شره. وكذلك شدته كانت للإسلام
ونصرته، أراد أن يُرهب أعداء الله تعالى من المشركين والمرتدين، وقد أخطأ في
بعض اجتهاداته؛ فهو معذور مأجور، لا يُقر على خطئه، ولا يؤثّم في اجتهاده؛
وهذا عين ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يقره على فعله ببني جذيمة،
ولم يؤثمه أو يعاقبه، وكذلك فعل الصديق - رضي الله عنه -؛ فإنه عاتبه على
اجتهاداته الخاطئة لكنه لم يعزله أو يؤثمه؛ بخلاف عمر - رضي الله عنه - الذي
أداه اجتهاده في خالد إلى عزله وتولية أبي عبيدة، رضي الله عنهم أجمعين.
شبهٌ والرد عليها:
وقد نقل بعض المؤرخين بعض الروايات التي يُشم منها رائحة اتهام الصحابة
- رضي الله عنهم - بالهوى، وأن عزل عمر لخالد - رضي الله عنهما - كان
لهوى في نفسه، وكراهية لخالد، ويذكرون قصة مصارعة قديمة بين خالد وعمر
- رضي الله عنهما - وفيها: أن خالداً صرع عمر وكسر رجله، فحملها عمر في
نفسه، فلما تولى الخلافة عزله ... إلخ.
وهذه النقول وما أشبهها باطلة من وجوه عدة، منها:
أولاً: أن الأصل في الصحابة - رضي الله عنهم - سلامة صدور بعضهم
على بعض؛ كما وصفهم الله تعالى بذلك في قوله سبحانه في وصف أهل الحديبية:
] أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [(الفتح: 29)، وعمر - رضي الله عنه -
من أهل الحديبية؛ فكيف يكون في صدره شيء على مؤمن مجاهد كخالد - رضي
الله عنه -؟
وقال سبحانه في وصف التابعين للصحابة بإحسان:] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ
لِّلَّذِينَ آمَنُوا [(الحشر: 10)، فإذا كان هذا الوصف في التابعين فالصحابة أوْلى
به، ولا سيما مَنْ كان من المهاجرين السابقين كعمر بن الخطاب - رضي الله
عنه -، والقادة المجاهدين كخالد بن الوليد - رضي الله عنه -.
فلا يُترك هذا الأصل المتين لمجرد روايات تاريخية يتناقلها القصاص
والإخباريون ليس لها خطام ولا زمام.
قال ابن حزم - رحمه الله تعالى -: «فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما
في قلوبهم، ورضي الله عنهم، وأنزل السكينة عليهم؛ فلا يحل لأحد التوقف في
أمرهم أو الشك فيهم البتة» [20].
ثانياً: أن من المستفيض المتواتر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
من أنصح الناس للأمة، وزهده وعدله وسيرته تنضح بالأمثلة والشواهد الكثيرة
على ذلك، وليس هذا مقام عرضها وسردها، فلا يُظن به وهو الناصح الأمين الذي
كان يتفقد أحوال الرعية أن يغش الأمة، ويعزل قائداً هي محتاجة إليه لولا أنه رأى
المصلحة تقتضي ذلك، وليس لنفسه أي حظ من ذلك.
ثالثاً: أن عمر - رضي الله عنه - من كبار الصحابة، ومن الخلفاء
الراشدين المهديين الذين أُمرت الأمّة كلها على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم
باتباع سُنَّتهم، واقتفاء سيرتهم؛ وذلك في قوله عليه الصلاة والسَّلام: «فعليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» [21].
¥