بيانُ مَنهجِ الإمامِ ابنِ جَريرٍ الطَّبَريِّ في كِتَابهِ التاريخيِّ «تاريخِ الأُمَمِ والمُلُوكِ» (1).
ها هو الإمامُ ابنُ جَريرٍ الطَّبَرِيُّ يكشفُ لنا عن منهجِهِ في مُقَدِّمَةِ كتابهِ «تاريخِ الأُمَمِ والمُلُوكِ» (1/ 52) فيقولُ:
« .. ما يَكُنْ في كِتَابي هذا مِنْ خَبَرٍ ذَكرنَاه عَنْ بعضِ الماضينَ، مما يَستنكِرُهُ قَارئُهُ، أو يَستشنِعُهُ سَامِعُهُ، مِنْ أجْلِ أنه لم يَعرفْ له وجهًا في الصِّحَّةِ، ولا معنًى في الحقيقةِ؛ فليعلمْ أنه لم يُؤتَ في ذلك مِنْ قِبَلِنَا، وإنما أُتى مِنْ قِبَلِ بعضِ نَاقليهِ، وأنَّا إنما أَدَّيْنَا ذلك على نَحوِ ما أُدِّيَ إلينا». اه
إذن؛ الإمامُ الطَّبَرِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - يُبَيِّنُ للقارئِ بوضوحٍ وجَلاءٍ أنه لَمْ يَشْتَرطِ الصِّحَّةَ فيما يَسوقُهُ مِنْ مَروياتٍ في كتابهِ هذا، وأنَّ العُهْدَةَ فيما يَنقلُهُ إنَّما هي على الرّواةِ النَّقَلَةِ، وأنه في هذا الكتابِ كان نَاقلاً أَمينًا، لا مُحققًا فاحصًا.
فبعضُ مَنْ روَى عنهمُ الطَّبَرِيُّ جَمَعَ بين الكَذِبِ وكَثْرةِ الروايةِ، من هؤلاءِ: -
? مُحَمَّدُ بنُ حميدٍ الرَّازِيُّ شَيْخُ الطَّبَرِيِّ؛ فقد أكثرَ الطَّبَرِيُّ مِنَ الروايةِ عنه في كِتَابَيْهِ: «التَّاريخِ» و «التَّفسيرِ» على الرغم مِنْ أنَّ مُحَمَّدًا هذا قد رُمِيَ بالكَذِبِ والوَضْعِ، وهو ضَعيفٌ سَاقطُ الحديثِ عندَ السَّوادِ الأعظمِ مِنْ عُلماءِ الجَرْحِ والتَّعديلِ (2).
? لُوطُ بنُ يَحْيَى أبو مِخْنَفٍ؛ له رواياتٌ كثيرةٌ في «تاريخِ الطَّبَرِيِّ» بلغت (585) روايةً، تعرَّضَ فيها لأحداثٍ ووقائعَ مُهمةٍ مِنَ التاريخِ الإسلاميِّ ابتدأتْ مِنْ وَفَاةِ الرَّسُولِ
صلى الله عليه وآله وسلم
إلى سُقوطِ الدولةِ الأُمَوِيَّةِ، ولُوطٌ هذا مَقدوحٌ فيه عندَ عُلَماءِ الحديثِ؛
- قال ابنُ مَعِينٍ: «ليسَ بشيءٍ».
- وقال ابنُ حِبَّانَ: «يَروي الموضوعاتِ عَنِ الثِّقَاتِ».
- وقال الذَّهَبِيُّ: «إِخْبَارِيٌّ تَالِفٌ» (3).
فظهرَ بهذا المثالِ أهميةُ الاطلاعِ على مَناهجِ وشُروطِ العُلَماءِ في كتابتهم للتاريخِ وفهمها، وضرورةُ استحضارِها أثناءَ مطالعةِ كتابِ هذا الإمامِ أو ذاك. والأمرُ نفسُه ينسحبُ على باقي كُتُبِ الأخبارِ والتاريخِ، بل على سائرِ كُتُبِ التُّراثِ وفنونِهِ المتنوعة.
وبعضُ هؤلاءِ المؤرِّخينَ كان مَنهجُهم نقلَ هذه الروايات والأخبارِ مُسندةً بغضِّ النَّظَرِ عن حالِ رجالِ أسَانيدِها، سيرًا على القولِ الشَّائعِ: «مَنْ أسندَ فقد أحالَ»، تَقليدًا منهم ومُحاكاةً لبعَضِ عُلَماءِ الحديثِ في تدوينِ الحديثِ، إذْ إنهم يكتبونَ كُلَّ المروياتِ المُسندَةِ كمرحلة أولية، ثُمَّ تأتي المرحلةُ التاليةُ ـ وهي الفَارقُ بينَ المؤرِّخينَ والمُحَدِّثينَ ـ حيثُ يقومون بالتنقيحِ والتفتيشِ والتحقيقِ وتمييزِ الصَّحيحِ مِنَ الضَّعيفِ.
وقد أشار إلى هذا المنهجِ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ العَسْقَلانيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - مُبينًا طريقةَ ومنهج أكثرِ الأقدمين في الروايةِ، فيقولُ: «أكثرُ المُحَدِّثينَ في الأعصارِ الماضيةِ مِنْ سَنةِ مئتين وهلم جرّا إذا ساقوا الحديثَ بإسنادِه؛ اعتقدوا أنهم بَرئوا مِنْ عُهدَتِهِ». اه (4)
وبالطبعِ يقصدُ الحافظُ الرواةَ النَّقَلَةَ، لا الأئمةَ النُّقَّادَ عُلَماءَ الروايةِ والجَرحِ والتعديلِ، حُرَّاسَ الدين مِنَ التَّحويرِ والتَّبديلِ، الذينَ يُطبِّقونَ على الرَّاويِ والمَرويِّ قواعدَ وقوانينَ القَبولِ والرَّدِّ الصَّارمةَ، تلك القواعدُ التي لا يوجدُ لها شَبيهٌ ولا مَثيلٌ في التجربة الإنسانية وأطوارها الحضارية.
فالواجب على القارئ - إن كان مؤهلاً - أن يَتحقّقَ مِنْ مرويَّاتِ هذا الكتابِ أو ذاك على ضوءِ قواعدِ المُحدِّثينَ النُّقَّادِ، وهو ما يُطلقُ عليه: علمُ «مصطلح الحديث» المخولُ بالكشفِ عن حالِ المروياتِ والأخبارِ وناقليها مِنْ حيثُ القبولُ والرَّدُّ،
بواسطة أمرين:
¥