* الأولُ: البحثُ والتفتيشُ عن حالِ الرواةِ النَّقَلَةِ لهذه المروياتِ، اعتمادًا على أقوالِ الجَهابذةِ النُّقَّادِ مِنْ أئمَّةِ الجرحِ والتعديلِ (5)، فمَنْ كان صالحًا ثقةً؛ قُبلتْ مَروياتُهُ. ومَنْ كان طالحًا ضَعيفًا، رُدَّتْ مروياتُهُ ولا كرامةَ.
* الثاني: النّظرُ في مُتونِ هذه المروياتِ ونقْدُها بمطابقتها على كِتابِ اللهِ تعالى والسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الثابتةِ والأصولِ العامةِ المستنبطةِ مِنهما؛ لمعرفة المُنكرِ منها مِنَ المحفوظِ، والنّاسخِ مِنَ المنسوخ.
هذا إن كان القارئُ مؤهلاً لإجراءِ هذه البحوثِ وتحقيقها، مطلعًا ذا دربةٍ وممارسة لهذا العلمِ الشَّريفِ الدَّقيقِ؛ وإلاَّ فعليه أنْ يتقيَ اللهَ تعالى ويُحيلَ الأمرَ إلى أَهلهِ أصحابِ الاختصاصِ مِنْ أهلِ البحثِ والمعرفةِ العدولِ الثِّقاتِ.
(السبب الثالث)
ما يُدندنُ به بعضُ الكَتَبةِ مِنْ إمكانيةِ التَّساهلِ في روايةِ التاريخِ، مقارنةً بالتَّشَدُّدِ في روايةِ الحديثِ النَّبَويِّ الشريفِ وهو لعمر الله؛ مِنْ أكبرِ الأخطاءِ التي يَقعُ فيها مُثَقَّفُونا؛ إِذْ إِنَّهُ لَونٌ مِنْ أَلوانِ التّأثُّرِ بالمنهجِ التاريخيِّ الغربيِّ، الذي لا يهتمُ بنقلِ الأسانيدِ، وأكبرُ مثالٍ على ذلكَ؛ أنَّ الإسنادَ بينهم وبين (الإنجيل)؛ منقطعٌ بمئات السنين وهو كتابهم المقدس فما بالك بغيره!
إنَّ تاريخَ آلِ البَيْتِ والصَّحَابَةِ
رَضِيَ اللهُ عنهم
هو جزءٌ مِنْ ديننا، لا يصحُّ بحال أن نسوّيَ بينه وبين تاريخٍ آخرَ، أو أن نتساهلَ في أَخذْهِ وروايتِهِ، فأيُّ إجحافٍ أو تَمييعٍ في حَقِّ هذا التاريخِ وتوثيقهِ؛ سوف يَعودُ أَثَرُهُ حَتْمًا على الدينِ، وعلى صِحَّةِ الأحاديثِ وسَلامتِها مِنَ التغييرِ والتبديلِ.
ولنا في طُعونِ بعضِ مَنْ في قَلْبِهِ دَخَنٌ في رَاوِيَةِ الإسلامِ أبي هُرَيْرَةَ (6) ذلك الصَّحَابيُّ الكبيرُ رَضِيَ اللهُ عنه أوضحُ مثالٍ.
إنّ بعضَ الباحثينَ يصولونَ ويجولون في مناقشةِ بعضِ الوقائع والأحداثِ التاريخية القديمة والحادثة، ما بين مُثبتٍ ونافٍ، ويقدمُ كُلُّ طَرفٍ دَليلَهُ وحُجَّتَهُ على ما ذهبَ إليهِ، على الرغم مِنْ أنَّ بعض هذه الأحداثِ لا يَترتبُ عليها كبيرُ فائدةٍ أو عملٍ، فما بالك بتاريخِ آلِ البَيْتِ والصَّحَابَةِ
رَضِيَ اللهُ عنهم
حَمَلَةِ الشَّريعَةِ وحصونه المنيعةِ؟!
وهذا لا يَعنِي وجُوبَ مُعَامَلةِ جَميعِ أخبارِ (الحِقْبَة الأولى) مِنْ تاريخِنا معاملةَ الأحاديثِ مِنْ حيثُ القَبولُ والرَّدُّ، بل يَجبُ التفريقُ بين الأخبارِ والرواياتِ؛ فإن كانتْ هذه الأخبارُ والآثارُ عن الآلِ والأَصْحَابِ تَحكي زُهْدَهُمْ وشَجاعتَهم وكَرمَهُم وتَضحيتَهم وحُسْنَ خُلُقِهِم وجَمَالَ طَبَائِعِهِم ولُطْفَ سَجَاياهُم، ولم تكنْ خارجةً عَنِ الأُصُولِ العامَّةِ للشَّريعةِ، ولا هي مِمَّا تَأْبَاهُ الفِطْرةُ السَّليمةُ؛ فلا مَانِعَ مِنْ ذِكْرِها ورُوايَتِها وكِتَابَتِها؛ لأنها لا تَمَسُّ أو تَخدشُ أَصْلاً شَرعيًّا، ولا يوجدُ في روايتها ضَررٌ أو مَسَاسٌ لمقامِ الآلِ والأَصْحَابِ
رَضِيَ اللهُ عنهم
.
أَمَّا إنْ كانت تلك الأخبارُ تَتناولُ الفِتَنَ، أو بعضَ المواقفِ الحاسمةِ، أو بعضَ ما يُسيءُ إلى مَقامِ الآلِ والأَصْحَابِ، أو فيها شَيءٌ مِنَ المخالفةِ لأصولِ الشَّريعَةِ العامَّةِ، أو تَخلَّلَها بعضُ الشَّوائبِ التي تَمُجُّهَا وتأباها الفِطْرُة السَّويَّةُ؛ فهذا النوعُ مِنَ الأخبارِ لابدَّ مِنَ النَّظَرِ في أسانيدِها نَظرًا دَقيقًا، ومُحاكمَتِها مُحاكمةً عَادلةً. هذه هي الأسبابُ الثلاثةُ الجوهريةُ التي دَخلَ مِنْ خلالِها التقصيرُ في قِرَاءةِ وعَرْضِ ونَقْلِ التاريخِ الإسلاميِّ.
هوامش الفقرة الثانية
:::::::::::::::::::::::
(1) الطَّبَرِيُّ: مُحَمَّدُ بنُ جَريرِ بنِ يَزِيدَ أبو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ. مُفَسِّرٌ وَمُحَدِّثٌ ومُؤرِّخٌ وفَقِيهٌ وأُصُولِيٌّ، إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ. وُلِدَ بآمل طبرستانَ سنة (224ه وتوفي سنة (310ه، مِنْ تصانيفه: «تاريخُ الأُمَمِ والمُلُوكِ» و «جَامِعُ البَيَانِ في تَأْويلِ القُرْآنِ».
(2) انظر: «ميزان الاعتدال» (3/ 530 - 531).
¥