تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبهذا يتضح الفرق بين المرحلية في التشريع وسير الدعوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرحلية في اكتساب القدرة والاستعداد للجهاد بما يستطاع من عُدته، ومن ثمّ البدء بالمواجهة وتغيير المنكر.

6 - ملاحظة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتخذ بعض المواقف، وعقد بعض المعاهدات بموجب ما أوحى الله إليه: الدارس للسيرة النبوية يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمِرَ من الله باتخاذ موقف محدد في بعض الحالات، وقد أُعْلِم صلى الله عليه وسلم بأن مآل هذا سيكون خيراً على المسلمين في حين أن ظاهره غير ذلك، مثل قبوله صلى الله عليه وسلم بعض الشروط في صلح الحديبية التي ظاهرها الحيف على المسلمين [10]؛ ولذلك أنكر بعض الصحابة القبول بها وجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغربين ومستفسرين، فلما علموا أنه قد أُلْهِم فيها وحياً من الله رضوا، ثم تحقق بعد الصلح والانصراف من الحديبية أن هذا الأمر كان فتحاً عظيماً بتقدير الله سبحانه وتعالى حيث نزلت سورة الفتح وسمَّت صلح الحديبية فتحاً مبيناً، ثم صار الأمر أن تنازل المشركون عن شرطهم الظالم؛ حيث انقلب ضد مصلحتهم وجاؤوا إلى رسول الله يطلبون موافقته على ذلك [11].

وبهذا يتضح أن قبول الرسول صلى الله عليه وسلم لشرط قريش الجائر وغير المكافئ كان بوحي من الله، وأن الله قدر أن مآله إلى خير للمسلمين.

ولكن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يوحى إليه، أما والي أمر المسلمين وخليفتهم فيجب عليه الاجتهاد في مصلحة المسلمين وعدم مهادنة العدو أو عقد الصلح معهم على شروط فيها ذلّ للمسلمين أو تفريط بحقوقهم وقضاياهم، أو قبول شروط فيها ضياع دينهم وعقيدتهم كما يحدث الآن في فلسطين؛ حيث إن من أسس المصالحة المقترحة نبذ الدين والاحتكام إلى القوانين الوضعية، وقيام نظام علماني يحكم المسلمين في فلسطين.

7 - هناك أمور في السيرة النبوية وقع تحديدها قدراً واتفاقاً فلا يقاس عليها: مثال ذلك: كون الفترة المكية ثلاث عشرة سنة، وهي فترة الإعداد والتربية والصبر على الأذى وعدم المواجهة، فلا يُلتزم بالمدة في الإعداد والتربية؛ لأنها ليست شرطاً ولا مقصودة وإنما هذا يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال المحيطة. ومثل الاستدلال بإنزال النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه الغرباء والفقراء في صُفَّة المسجد على مشروعية بناء الزوايا الصوفية.

وهذا استدلال غير صحيح، والغرباء الذين نزلوا الصُّفَّةَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من العزَّاب والفقراء الذين لا يستطيعون تدبير سكن لهم، ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر دار ضيافة ولا نُزُل، ولذا كان إنزالهم في المسجد حلاً لمشكلة، وتوظيفاً لمكان موجود، وبياناً لبعض وظائف المسجد، وهم ليسوا منقطعين عن العمل بل يعملون إذا تيسر لهم ذلك، ويبادرون إلى الخروج في السرايا والغزوات، ويتعلمون القرآن والأحكام طيلة مكثهم في المسجد، ومجرد نزولهم الصفة لا يعطيهم فضيلة أو منزلة يتميزون بها عن بقية الصحابة؛ فليس منقبة لأحدهم أنه نزل في الصُّفَّة كما يقال في مناقب الصحابة: مهاجري، بدري، عَقَبي بايع تحت الشجرة ... إلخ من المناقب والمشاهد العظيمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبهذا يتضح الفرق بين الصُّفَّة النبوية ومن نزلها، وبين الزوايا الصوفية البدعية؛ في الأصل والهدف والغاية [12]، وأنه لا يمكن الاستدلال بالصُّفَّة النبوية على جواز بناء الزوايا الصوفية التي تُمثِّل انحرافاً عن المنهج النبوي في التعبد والسلوك والجهاد والدعوة.


(1) الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي، ص 212.
(2) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، ح/ 3942، وقال: «حسن صحيح غريب»، قال الشيخ الألباني في دفاع عن السيرة، ص 7، رواية الترمذي ضعيفة لعنعنة أبي الزبير، وأخرجه أحمد في المسند، 3/ 343، وانظر احتجاج البوطي به في فقه السيرة له، ص 395.
(3) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(4) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، حديث رقم 2524.
(5) انظر: مقاييس نقد متون السنة، مسفر الدميني، ومنهج نقد الروايات التاريخية، محمد السلمي، ص 64 70.
(6) كتاب الإيمان، حديث رقم 261.
(7) راجع أحكام أهل الذمة، ابن القيم، (1/ 205 وما بعدها).
(8) رواه مسلم، ح/ 49.
(9) انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى (28/ 129).
(10) ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 316 320).
(11) المصدر السابق (2/ 324).
(12) انظر: مجموع الفتاوى (11/ 40 41، 44، 56)، وانظر بحثاً لطيفاً للأستاذ صالح الشامي بعنوان: (أهل الصُّفَّة بعيداً عن الوهم والخيال).

ـ[حسين العسقلاني]ــــــــ[12 - 12 - 06, 09:08 م]ـ
بارك الله فيك وجعل ذلك في ميزان حسناتك
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير