وبناء على ذلك إذا كانت الرواية التاريخية لا تتعلق بإثبات أمر شرعي أو نفيه سواء كان لذلك صلة بالأشخاص – كالصحابة رضوان الله عليهم – أو الأحكام – كالحلال والحرام – فإن الأمر عندئذ يختلف، فيقبل في هذا الباب من الروايات الضعيفة ما يقبل في سابقه، فيستشهد بها، لأنها قد تشترك مع الروايات الصحيحة في أصل الحادثة، و ربما يُستدل بها على بعض التفصيلات و يُحاول الجمع بينها و بين الروايات الأخرى التي هي أوثق سنداً.
يقول الكافيجي – هو محمد بن سليمان بن سعد الرومي الحنفي الكافيجي (ت 879 هـ) له معرفة باللغة والتاريخ والتفسير وعلوم أخرى – في هذا الصدد: يجوز للمؤرخ أن يروي في تاريخه قولاً ضعيفاً في باب الترغيب و الترهيب والاعتبار مع التنبيه على ضعفه، و لكن لا يجوز له ذلك في ذات الباري عز وجل و في صفاته ولا في الأحكام، و هكذا جوز رواية الحديث الضعيف على ما ذكر من التفصيل المذكور. المختصر في علوم التاريخ (ص 326).
و يقول الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه دراسات تاريخية (ص 27): أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسف كثير، و الخطر الناجم عنه كبير، لأن الروايات التاريخية التي دونها أسلافنا المؤرخون لم تُعامل معاملة الأحاديث، بل تم التساهل فيها، و إذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثل هوّة سحيقة بيننا، و بين ماضينا مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع .. لكن ذلك لا يعني التخلي عن منهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية، فهي وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنها خير معين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا، و لكن الإفادة منها ينبغي أن تتم بمرونة آخذين بعين الاعتبار أن الأحاديث غير الروايات التاريخية، وأن الأولى نالت من العناية ما يمكنها من الصمود أمام قواعد النقد الصارمة.
و هذا التفريق بين ما يتشدد فيه من الأخبار و يتساهل فيه نلحظه بوضوح في تصرف الحافظ ابن حجر في جمعه بين الروايات في كتابه الفتح، ففي الوقت الذي يقرر فيه رفض رواية محمد بن إسحاق إذا عنعن و لم يصرح بالتحديث، و رفض رواية الواقدي، لأنه متروك عند علماء الجرح والتعديل فضلاً عن غيرهما من الإخباريين الذي ليس لهم رواية في كتب السنة من أمثال عوانة والمدائني، فإنه يستشهد برواياتهم، و يستدل بها على بعض التفصيلات، و يحاول الجمع بينها و بين الروايات الأخرى التي هي أوثق إسناداً.
و هذا يدل على قبوله لأخبارهم فيما تخصصوا فيه من العناية بالسير والأخبار، و هو منهج معتبر عند العلماء المحققين وإن لم يقبلوا روايتهم في الأحكام الشرعية، فنجد ابن حجر يقول في محمد بن إسحاق: إمام في المغازي صدوق يدلس.طبقات المدلسين (ص 51). و يقول عن الواقدي: متروك مع سعة علمه. التقريب (2/ 194). و يقول في سيف بن عمر: ضعيف في الحديث، عمد في التاريخ. التقريب (1/ 344).
هذا مختصر ما يمكن أن يقال في الحكم على الروايات التاريخية والفرق بينها وبين رواية الحديث.
القواعد التي تتبع في قبول أو رد الروايات التاريخية ..
القاعدة الأولى: اعتماد المصادر الشرعية وتقديمها على كل مصدر.
لأنها أصدق من كل وثيقة تاريخية فيما ورد فيها من أخبار، كما أنها وصلتنا بأوثق منهج علمي، ولئن كانت المادة التاريخية في كتب السنة ليست بنفس المقدار الموجود في المصادر التاريخية، إلا أنها لها أهميتها لعدة اعتبارات منها:-
1 – أن معظم مؤلفيها عاشوا في فترة مبكرة، وأغلبهم من رجالات القرن الثاني والثالث الهجري، مما يميز مصادرهم بأنها كانت متقدمة.
2 – ثم إن المحدثين يتحرون الدقة في النقل، الأمر الذي يجعل الباحث يطمئن إلى رواياتهم أكثر من روايات الإخباريين.
القاعدة الثانية: الفهم الصحيح للإيمان، و دوره في تفسير الأحداث.
إن دارس التاريخ الإسلامي إن لم يكن مدركاً للدور الذي يلعبه الإيمان في حياة المسلمين، فإنه لا يستطيع أن يعطي تقييماً علمياً وواقعياً لأحداث التاريخ الإسلامي.
القاعدة الثالثة: أثر العقيدة في دوافع السلوك لدى المسلمين.
¥