إن منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتفسير حوادثه يعتمد في أصوله على التصور الإسلامي، ويجعل العقيدة الإسلامية ومقتضياتها هي الأساس في منطلقاته المنهجية، وفي تفسير حوادثه والحكم عليها.
وإن معرفة أثر الإسلام في تربية أتباعه في صدر الإسلام وتزكية أرواحهم، والتوجه إلى الله وحده بالعبادة والمجاهدة، يجعل من البديهي التسليم بأن الدافع لهم في تصرفاتهم وسلوكهم لم يكن دافعاً دنيوياً بقدر ما كان وازعاً دينياً وأخلاقياً.
ولأجل ذلك يجب استعمال الأسلوب النقدي في التعامل مع المصادر التاريخية، وعدم التسليم بكل ما تطرحه من أخبار، فتوضع الوجهة العامة للمجتمع الإسلامي وطبيعته وخصوصيته في الحسبان، وينظر إلى تعصب الراوي أو الإخباري أو المؤرخ من عدمه، فمن لاحت عليه أمارات التعصب والتحيز بطعن أو لمز في أهل العدالة والثقة من الصحابة، أو مخالفة لأمر معلوم من الشريعة أو عند الناس، أو معاكسة طبيعة المجتمع وأعرافه وقيمه الثابتة، ففي هذه الأحوال لا يؤخذ منه ولا يؤبه بأخباره؛ لأن التحيز والتعصب حجاب ساتر عن رؤية الحقيقة التاريخية.
القاعدة الرابعة: العوامل المؤثرة في حركة التاريخ.
إن المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ منهج شامل لكل الدوافع والقيم التي تصنع التاريخ، غير واقف أما حدود الواقع المادي المحدود الظاهر للعيان فقط، بل إنه يتيح فرصة لرؤية بعيدة يستطيع المؤرخ معها أن يقدم تقييماً حقيقياً وشاملاً أكثر التحاماً مع الواقع لأحداث التاريخ الإنساني، وهذا سر المفارقة بين المنهج الإسلامي وبقية المناهج الأخرى الوضعية التي تفسر التاريخ تفسيراً عرقياً أو جغرافياً أو اقتصادياً.
القاعدة الخامسة: العلم بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم والتثبت فيما يقال عنهم.
قال ابن تيمية رحمه الله: إن الحكم على أي طائفة أو قوم، يقوم على أصلين، أحدهما: المعرفة بحالهم، و الثاني: معرفة حكم الله في أمثالهم. مجموع الفتاوى (28/ 510).
وهذان الأصلان يقومان على العلم المنافي للجهل، والعدل المنافي للظلم؛ إذ الكلام في الناس لا يجوز بغير علم وبصيرة.
وعلى هذا الأساس ينبغي التحري فيما يروى عن الوقائع التي كانت بين أعيان الصدر الأول من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فالمعرفة بحالهم تدل على كمال إيمانهم، وصدقهم وحسن سريرتهم، إذ توافرت النصوص الشرعية في تزكيتهم وتعديلهم.
وبناء على هذا لابد من الرجوع إلى المصادر الأصلية الموثوقة لمعرفة الحقيقة، فلا يؤخذ من الكذابين والفاسقين وأصحاب الأهواء؛ لأن فسقهم وهواهم يدفعهم إلى تصوير الأمر على خلاف حقيقته.
وهنا مجموعة من المقاييس ينبغي الأخذ بها في هذا الشأن، و هي:-
1 – عدم إقحام الحكم على عقائد ومواقف الرجال بغير دليل في ثنايا سرد الأعمال، إذ أن الحكم على أقدار الناس يجب أن يكون قائماً على حسن الظن حتى يثبت خلاف ذلك.
2 – عدم تجاوز النقل الثابت إلى إيراد الظنون والفرضيات، فهذا من فضل الدين أن حجزنا عنه، ولم يفعل هذا مؤرخ فاضل، ولم يقل أحد أن حسن الأدب هو السكوت عن الذنوب، وإنما حسن الأدب هو رده وتنقية سيرة الصدر الأول منه، كما أن حسن الأدب يقتضي السكوت عن الظنون والكف عن اقتفاء مالا علم لنا به يقيناً، وكثيراً ما تلحّ على المرء في هذا شهوة الاستنتاج ودعوى التحليل، وقد أمرنا الشرع أن تكون شهادتنا يقينية لا استنتاجية فيما نشهد من حاضرنا، ففي الآية {إلا من شهد بالحلق وهم يعلمون}، فكيف بمن يشهد بالظن والهوى فيمن أدبر من القرون؟؟!
3 – إن الإسلام له منهجه في الحكم على الرجال والأعمال، فهو يأمر بالشهادة بالقسط وعدم مسايرة الهوى في شنآن أو في محبة، ويأمر باتباع العلم لا الظن، وتمحيص الخبر والتثبت فيه لئلا يصاب قوم بجهالة، وهذا في حق كل الناس، فكيف بخير القرون؟؟!
القاعدة السادسة: الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل وإنصاف.
الأصل في هذه القاعدة قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}.
¥