لما كان ظهور ابن سبأ في الحجاز قبل ظهوره في البصرة والشام، فلابد أن يكون قد ظهر في الحجاز قبل سنة (30هـ)، لأن ظهوره في الشام كان في هذا التاريخ، و في الحجاز لا تكاد تطالعنا الروايات التاريخية على مزيد من التفصيل، و لعل في هذا دلالة على عدم استقرار أو مكث لابن سبأ في الحجاز، عدا ذلك المرور في طريقه التخريبي، لكنه كما يبدو لم يستطع شيئاً من ذلك فتجاوز الحجاز إلى البصرة. تاريخ الطبري (4/ 340 - 341).
ظهوره في البصرة:-
و في البصرة كان نزول ابن سبأ على (حكيم بن جبلة العبدي)، و خبره كما ورد في الطبري (4/ 326): (لما مضى من إمارة ابن عامر ثلاث سنين بلغه أن في عبد القيس رجلاً نازلاً على حكيم بن جبلة، و كان حكيم رجلاً لصاً إذا قفلت الجيوش خنس عنهم، فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة، و يتنكر لهم و يفسد في الأرض و يصيب ما يشاء ثم يرجع، فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان، فكتب إلى عبد الله بن عامر أن احبسه و من كان مثله فلا يخرج من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً، فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها، فلما قدم ابن السوداء نزل عليه، و اجتمع إليه نفر فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرح، فقبلوا منه واستعظموه.
و بقية خبر الطبري يفيدنا أنه لقي آذاناً صاغية في البصرة، و إن كان لم يصرح لهم بكل شيء، فقد قبلوا منه واستعظموه، و شاء الله أن تحجم هذه الفتنة و يتفادى المسلمون بقية شرها و ذلك حينما بلغ والي البصرة ابن عامر خبر ابن سبأ، فأرسل إليه و دار بينهما هذا الحوار: (ما أنت؟ فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام والجوار، فقال ابن عامر: ما يبلغني ذلك! اخرج عني، فأخرجه حتى أتى الكوفة. تاريخ الطبري (4/ 326 - 327).
ظهوره في الكوفة:-
الذي يبدو أن ابن سبأ بعد إخراجه من البصرة وإتيانه الكوفة، لم يمكث بها طويلاً حتى أخرجه أهلها منها، كما في بقية خبر الطبري (4/ 327): (فخرج حتى أتى الكوفة، فأخرج منها فاستقر بمصر و جعل يكاتبهم و يكاتبونه، و يختلف الرجال بينهم).
لكنه وإن كان قد دخل الكوفة ثم أخرج منها سنة (33هـ)، إلا أن صلته بالكوفة لم تنته بإخراجه، فلقد بقيت ذيول الفتنة في الرجال الذين بقي يكاتبهم و يكاتبونه. الطبري (4/ 327) وابن الأثير (3/ 144).
ظهوره في الشام:-
في ظهور ابن سبأ في الشام يقابلنا الطبري في تاريخه نصان، يعطي كل واحد منهما مفهوماً معيناً، فيفيد النص الأول أن ابن سبأ لقي أبا ذر بالشام سنة (30هـ) و أنه هو الذي هيجه على معاوية حينما قال له: (ألا تعجب إلى معاوية! يقول المال مال الله، كأنه يريد أن يحتجزه لنفسه دون المسلمين؟ وأن أبا ذر ذهب إلى معاوية وأنكر عليه ذلك). تاريخ الطبري (4/ 283).
بينما يفهم من النص الآخر: أن ابن سبأ لم يكن له دور يذكر في الشام، وإنما أخرجه أهلها حتى أتى مصر، بقوله: (أنه لم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام) تاريخ الطبري (4/ 340).
و يمكننا الجمع بين النصين في كون ابن سبأ دخل الشام مرتين، كانت الأولى سنة (30هـ)، و هي التي التقى فيها بأبي ذر، و كانت الثانية بعد إخراجه من الكوفة سنة (33هـ)، و هي التي لم يستطع التأثير فيها مطلقاً، و لعلها هي المعنية بالنص الثاني عند الطبري.
كما و يمكننا الجمع أيضاً بين كون ابن سبأ قد التقى بأبي ذر سنة (30هـ)، و لكن لم يكن هو الذي أثر عليه و هيجه على معاوية، و يرجح هذا ما يلي:-
1 - لم تكن مواجهة أبي ذر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه وحده بهذه الآراء، و إنما كان ينكر على كل من يقتني مالاً من الأغنياء، و يمنع أن يدخر فوق القوت متأولاً قول الله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة} [التوبة/34].
2 - حينما أرسل معاوية إلى عثمان رضي الله عنه يشكو إليه أمر أبي ذر، لم تكن منه إشارة إلى تأثير ابن سبأ عليه، و اكتفى بقوله: (إن أبا ذر قد أعضل بي و قد كان من أمره كيت و كيت .. ). الطبري (4/ 283).
3 - ذكر ابن كثير في البداية (7/ 170، 180) الخلاف بين أبي ذر ومعاوية بالشام في أكثر من موضع في كتابه السابق، و لم يرد ذكر ابن سبأ في واحد منها، و إنما ذكر تأول أبي ذر للآية السابقة.
¥