ويلاحظ الاهتمام في هذه الدراسة بنقل الخبر عن شاهد عيان مشارك بالحادثة، وهو منهج في الدراسات التاريخية المعاصرة، كما أنه معتبر في الدراسات الحديثية فى القرون الهجرية الأولى، ونلحظ أن الإمام البخاري في صحيحه كثيرًا ما يختار الرواية من طريق الصحابي المشارك بالحادثة، كما فعل في نقل قصة الإفك عن عائشة رضي الله عنها، وسبب نزول سورة المنافقين عن زيد ابن أرقم، وسبب نزول سورة الجمعة عن جابر بن عبد الله الأنصاري، وقصة نزول سورة التحريم عن عائشة، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة. فشاهد العيان أدق رواية إذ تشترك الحواس العديدة من العين والسمع واللمس في ضبط الخبر ... وهذا أقوى من النقل بواسطة السمع فقط كما يحدث عندما يغيب عن الرواية شاهد العيان.
إن هذه الدراسة لم تبن على انتقاء للروايات يرتبط بخدمة فكرة معينة ويهدف لتحقيق كسب (ايديولوجي) بل إنه انتقاء للقوي من الروايات سواء عومل بمعايير المحدثين أو بمعايير النقد التاريخي.
وبالتالي فإن الصورة التي ستعطيها الروايات هى أقرب الصور إلى الحقيقة التاريخية؛ خاصة أن فهمها والاستنباط منها تم وفق أساليب العربية وقواعدها دون أي تعسف أو تمحل في التفسير.
وينبغي الانتباه إلى أن الانتقاء عندما يتم وفق قواعد صارمة، فإنه يدع مجالاً لتفلت العديد من النصوص التاريخية التي يمكن التعامل معها وفق معايير أقل صرامة، ومن ثم فإن قراءة نصوص الواقدي وفق منهج النقد التاريخي تتيح الفرصة لإضافات أخرى لمادة السيرة، وهذا ينطبق على الروايات التي أوردها ابن إسحق دون إسناد، كما ينطبق على روايات ابن سعد التي نقلها عن ابن الكلبي ..
إن هؤلاء الرجال المتخصصين في فن السيرة قد عوملوا من قبل النقاد القدامى بتساهل كبير بغية الإفادة من رصيدهم التاريخي الهائل.
إن الأمور المتفق عليها بين هؤلاء الإخباريين يمكن أن تحتل مكانها في الدراسات التاريخية ما لم تتعلق بالعقيدة أو الشريعة ..
أما بخصوص الآيات التي استشهدت بها في هذه الدراسة فقد راجعت الروايات المتعلقة بأسباب النزول وأثبت ما تبين أنه نزل في الحادثة التاريخية أو تعقيبًا عليها.
وقد نبه الحافظ ابن حجر إلى أنه " يوجد كثير من أسباب النزول في كتب المغازي، فما كان منها من رواية مُعتمِر بن سليمان عن أبيه - يعني سليمان بن طرخان التيمي صاحب السيرة - أو من رواية إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة، فهو أصلح مما فيها من كتاب محمد بن إسحق، وما كان من رواية ابن إسحق أمثل مما فيها من رواية الواقدي ".
ومعنى أسباب النزول ذكر الأحداث والأسئلة التي نزل بشأنها وقت وقوعها أو بعده بيسير. ولكن دراسة روايات أسباب النزول للإفادة منها تاريخيًا تقف أمامها عوائق عديدة أهمها الاختلاف القديم حول سبب نزول العديد من الآيات. وخاصة عندما تتعارض الروايات الصحيحة في هذا المجال كما يحدث في كتاب التفسير من صحيح البخاري. وعندما يصار إلى محاولة الجمع بالقول بتعدد المرات التي نزلت فيها الآية الواحدة فالقصص قد تتعدد والأحداث المتماثلة تتوالى في وقت متقارب، مما يحتاج إلى جوانب أو فتيا، فتنزل الآية لتجيب أصحاب الوقائع عن حكم ما حدث لهم. لذلك قال ابن حجر: " لا مانع أن تتعدد القصص ويتعدد النزول ".
وتجدر الإشارة إلى أن صحيح البخاري من أوسع كتب السنة التي استقصت روايات أسباب النزول إضافة إلى أنها في أعلى درجات الصحة. وأن أوسع الصحابة رواية لأسباب النزول هو ابن عباس. ويلي صحيح البخاري في كثرة العناية بأسباب النزول مستدرك الحكم ومعظم ما أورده الحاكم من حديث ابن عباس (29 رواية) ويليه حديث عائشة (7 روايات).
أما أوسع كتب السنة رواية لأسباب النزول فهو مسند أحمد (28 رواية) معظمها صحيح وقليل منها ضعيف، حيث أورد معظم ما أورده البخاري وزاد عليه.
¥