تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إذن، وظيفة الروائي المنتظر، هي في إحداث التغيير في واقع القارئ، أي أن الرواية كفن إنساني عالمي عظيم يجب أن تكون رسالتها في تغيير واقع القارئ الفرد و من ثم القارئ الأمة، و من ثم القارئ الإنسان العالمي، أي أن الرواية يجب أن تكون بيد الروائي المنتظر أداة للتغيير، و لكن كيف يمكن أن يحدث ذلك؟

عالم الرواية هو عالم باطني، و يمكن النفاذ إلى عمقه من الظاهر، و ليس المقصود بالعالم الباطني للرواية هو عالم التصوف بمفهومه الديني، بل المقصود هو تلك المستويات التي ذكرت و هذا العمق للأشياء جميعها، الذي نطل عليه من ظاهر الأشياء نفسها، هذا العمق الذي نهبط من خلاله إلى قاع الأشياء لنستبين ما يقر و يستقر فيها، هذا العمق الذي نستكشفه في الرحلة الروائية من السطح حيث نرى البيئة المحيطة بالحدث / أو الأحداث و الشخصيات كمستوى أول ظاهر، ثم نتعرف على السلوك كمستوى ثاني ظاهر، ثم نهبط قليلا إلى عالم القدرة والمهارات كمستوى ثالث باطن، ثم نهبط إلى عالم المعتقدات والقيم كمستوى رابع باطن، ومنه نهبط إلى عالم الهوية و الانتماء كمستوى خامس باطن، ثم إلى عالم الروح كمستوى سادس باطن، و أخيرا إلى عالم القلب العجيب العميق كمستوى سابع باطن، ثم العودة إلى السطح مرة أخرى، هذه الرحلة الروائية التي تشبه النزول إلى قعر بئر مظلم ثم الصعود مرة أخرى, حين تسرد لنا الرواية تفاصيل شعور بطل القصة عندما يأتى إلى هذه البئر المجهولة في صحراء مجهولة و هو يكاد يموت من الظمأ ثم أخذ ينزل رويدا رويدا في هذا البئر ليصل إلى القاع، حيث قد يجد الماء هناك فيرتوي و يعود مرة أخرى إلى الحياة بروح جديدة، أو قد لا يجد الماء فيموت هناك في قلب البئر في نهاية مأساوية مرعبة، هذه الرحلة الروائية المحفوفة بالمخاطر بكل تفاصيلها و ما فيها من معاناة و خوف و قلق و أسئلة و انتظار و صبر، التي تبدأ من ظاهر الأحداث حتى تصل إلى باطن المعنى هي المسافة بين الوعي و اللاوعي، بين الشعور و اللاشعور، أما لحظة العودة إلى نقطة البداية، مع إجابة حقيقة لأسئلتنا فهي نقطة التحول الحقيقي الكامل، وهي مرحلة الصحوة الحقيقة، حين نكتشف وعيا جديدا للأِشياء، وللعالم، و لذواتنا، عندما تتلاشى المسافة بين اللاوعي و الوعي و يصيران شيئا واحدا.

و في هذا العالم الباطني المظلم المجهول لا تعد رؤية البصر تفيد كثيرا، بل قد تكون هي سبب الظلال و التيه، فما تراه بعينك في الظاهر قد يكون له ألف دلالة مختلفة هنا في الباطن، ما تسمعه من أصوات في الظاهر؛ يأخذ دلالته من فطرة الصوت الأولي في الباطن، تلك الفطرة المسموعة بوضوح شديد في أذن العالم الباطني شديدة الحساسية، وهنا لا بد من أن تقود القارئ خبرة الروائي في السير في هذه الرحلة، أي أن الروائي يحتاج إلى أن تكون له تجربته الخاصة و نظريته الخاصة في هذا العالم، ولن تكون أي رواية عظيمة إلا إذا كانت تخرج إلى الوجود من عمق العقل الباطن لذلك الروائي العظيم بعد أن رأي بعينيه و سمع بأذنيه و لمس بيديه كل تفاصيل هذه الرحلة العجيبة، الرحلة إلى أعماق النفس البشرية و ما فيها من أسرار، حيث كنز المعرفة الإنسانية، ومعقل التغيير الحقيقي الشامل.

من هنا تكون الرواية هي أكبر الفنون الأدبية عمقا و اتساعا فعلا، و أداة للتغيير؛ تغيير قلب الإنسان و واقع الإنسان.

ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[31 Aug 2005, 05:15 م]ـ

المقالة الرابعة

بنية الواقع و نظرية الأدب

كيف يمكن الدخول إلى عالم الرواية بنظرية فكرية إنسانية دون أن نقرأ واقع الإنسان قراءة حقيقية كاملة؛ و نستخرج المعنى الحقيقي الذي ينطبق على حقيقة واقع الإنسان، ظاهره وباطنه؟!

حير عقلي هذا السؤال لسنوات طويلة؛ و قد بلغت حيرتي فيه حدا جعلتني في أزمة تلو الأخرى عند قراءتي أية رواية، كنت ألجأ إلى كتب نقد الرواية و مناهج النقد الأدبي بشكل عام رغبة مني في أن أعرف أسرار ما أقرأ و ما تقوله الرواية. عرفت أن كل منهج نقدي يولد من رحم منهج فكري، و كل منهج فكري هو نتاج مفاجأة و أزمة و معاناة، و كارثة ... ، إلى آخره، لكن كل ما يعنيني من قراءة تلك الكتب هو أن أتخلص من أزمتي أنا، و معاناتي أنا، و كارثتي أنا. مرت عشرون سنة منذ أول كتاب قرأته في نقد الرواية إلى أن وصلت سن الأربعين، و أنا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير