تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أقرأ دون جدوى، سعيت جاهدا أن أفهم هذه المناهج الأدبية المختلفة، لكنى وجدت التعاريف تتغير و تتقلب و تتلاشى مع تغيرات و تقلبات وتلاشى المسببات من حول الإنسان. يتحدث بعض النقاد عن الرومانتيكية كمنهج أدبي مستقل ثم لا تلبث أن تقرأ عن أن أحد النقاد الكبار يرى أن الرومانتيكية لم تكن إلا مقدمة للواقعية، تسمع أحدهم يتحدث عن الواقعية النقدية و عن الواقعية الاشتراكية، كمنهجين مختلفين تماما، ويأتي آخر ليقول أنهما شيئا واحد في مكانين منفصلين، وأنا ما زلت في دوامة من الأسئلة، وسط دوامة من الأزمات و أنا أعيش في هذه الرواية الآدمية الملحمية العجيبة. كان لدي إحساس أن هذه مشكلتي وحدي و يجب كما تعودت أن أجد الحل بنفسي.

وفي لحظة استرخاء عجيبة، و كلمة " الواقعية" تتردد في رأسي؛ اكتشفت في صدى ما تردد من قراءاتي أن الواقعية كمذهب أدبي كانت تسير جنبا إلى جنب مع أي مذهب أدبي آخر خلال رحلة التفكير الإنساني الحديث، بل أن لها صدى أقدم من ذلك بكثير، عبر جميع الظروف التاريخية التي مر بها الإنسان. كانت الواقعية تطغى على الفكر الإنساني في مراحل مختلفة و أماكن مختلفة من العالم حتى صارت إلى الواقعية النقدية في الغرب أو الواقعية الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، بل إن تعريف كثير من مناهج التفكير كان يختلط بتعريف الواقعية نفسها؛ ثم هاهي تنفرد في الساحة بعد أن مرت بها مذاهب أخرى مثل الوجودية، و الرمزية، و السريالية و الحداثة و ما بعد الحداثة، و ذهب كل ذلك جفاء، و بقيت هذه الواقعية تقاوم و كأنها قدر هذا الأدب الإنساني، رغم أن كثيرين يراهنون على زوالها كما زال غيرها. هنا عدت للقراءة بتركيز عن الواقعية لعلى أجد الجواب المفقود، هذه القراءة قادتني إلى أن الإنسان الحديث في بحثه عن أجوبة لأسئلته التي فرضتها ظروف خاصة مثل الحروب و الثورات، كان هواه الخاص أو نزوته الخاصة أو شهوته الخاصة أو مرضه الخاص، إلى آخر قائمة الضعف الإنساني؛ يقوده إلى منهجه الخاص في فهم هذه الحياة، لكن كل ذلك يجرى على أرض الواقع، واقع العالم الكبير الذي يعيش فيه، واقع الحياة نفسها، هذا الواقع الذي يقذف إشعاعاته عنوة في و عي ذلك الإنسان حتى إذا ما خرج مذهبه الفكري أو الأدبي، وإذا بطيف إشعاعات ذلك الواقع تغلف ذلك المذهب بشيء من الواقعية، و تنعكس في وعي صاحبه.

إذن، الإجابة هي في دراسة بنية الواقع مباشرة، لكن الواقع، حسب ما ذكرت في المقال السابق، له بنية ظاهرة و بنية باطنة تعملان كبنية واحدة مكونة من سبعة مستويات، اثنان منها ظاهران، والبقية باطنة، و أغلب الفلاسفة و المفكرين الكبار استمدوا مناهجهم من قراءة جزء يسير من بنية الواقع الظاهرة، وهي بنية المستويين الأولين الظاهرين للواقع، وهما مستوى البيئة و مستوى السلوك و العادات. يقول الله عز وجل في سورة الروم، الآية السابعة: " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون". ولو أراد إنسان أن يدرك السنن التي تتحكم بالمستوى الأول أو الثاني؛ لأستنزف عمره كله دون أن يدرك من حقيقة الواقع الكلية شيئا ذا بال. هذا هو سبب أزمة المنهج الفكري و الأدبي عند دراسة الأدب و واقع الإنسان، و الرواية الحقيقية التي ستذهل العالم أجمع يجب أن تخرج من منهج الواقع، واقع هذا العالم بكل أبعاده و حقائقه و قوانينه مهما بدا هذا الواقع غريبا و مختلفا و محتوما، و أن تلتحم هذه الرواية أيضا بتفاصيل واقع هذه الرواية الآدمية الملحمية الكبرى، التي نعيش تفاصيلها كل يوم منذ أن خلق الله آدم و جعله خليفته في الأرض، أي أنه يجب على الروائي المنتظر أن يتجاوز كل هذه المذاهب والنظريات الأدبية المتقلبة إلى نظرية حقيقية واضحة؛ تكشف له أسرار المعرفة على نحو خاص قبل أن يقدم روايته الجديدة وهي تدفع الإنسان نحو التغيير طوعا أو كرها، ذلك التغيير الذي هو روح الأدب و معناه، ولكن أليس هذا ما فكر فيه الآخرون من قبل؟!

يقول د. صلاح فضل في كتابه " منهج الواقعية في الإبداع الأدبي ":

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير