ما لذي يبقى في النص، إذا تنازل المؤلف عن وظيفته للكتابة، و التي تمتص بدورها وظيفة القارئ الذي يتنازل للقراءة عن دوره؟! ما لذي يبقى في النص إذا نحن غيبنا مفاهيم الذاتية و الوعي لدى المؤلف و لدى القارئ، و إذا نحن أزحنا الإبداع و التفرد و العبقرية و التميز؟! ألا يصير "المعنى" في هذه الحالة أمرا غامضا و عائما و محيرا، و قد يقودنا في كثير من الأحوال، إلى القراءة الضالة الخاطئة للنص الروائي.
أليست هذه هي معضلة القراءة الحديثة للنص، أليس هذا هو النفق المسدود الذي دخلت فيه البنيوية و لم تخرج منه بعد؟
حسنا، أظن، والله أعلم، أن حل هذه المعضلة، الذي يخرجنا من كل هذا الإشكال هو في ضرورة وجود " المعنى" المهيمن؛ هذا هو حل اللغز الذي دوخ أساطين البنيوية و تلاميذها، هذا هو حل لغز القراءة الحديثة المتطورة، هذا هو الحل لقراءة أية نص روائي، قراءة حديثة متفوقة، و لكن ما هو هذا المعنى "المهمين "؟
المعنى المهيمن هو الذي يهيمن، في آن واحد، على المعنى الذي يقصده المؤلف، و على المعنى الذي يراه القارئ، و على المعنى الذي تفرضه (حروف) النص المكتوب، وهو المعنى الثابت و القياسي، الذي نقيس عليه حقيقة وصدق المعنى في قلب المؤلف أو القارئ أو النص. فإذا كانت المعاني الثلاثة، للمؤلف و القارئ و النص، تنطبق على هذا المعنى المهيمن، فهذا دليل قاطع على عبقرية ذلك " النص المقروء أو المكتوب"، و عندها سيقوم ذلك النص بدوره الأدبي في إحداث التغيير المطلوب الشامل.
لكن المعاني لا تظهر و لا تتحرك في الفراغ، بل تحتاج إلى بنية نص تظهر و تتحرك فيه، و كذلك المعنى المهيمن لا يظهر في فراغ، بل إنه يحتاج إلى بنية نص يتحرك فيها؛ و بذلك فإن هذا النص، هو أيضا، يجب أن يكون نصا مهيمنا على ما سواه، نصا ثابتا لا يتغير، نصا قياسيا، نستطيع أن نقيس به المعاني في ظهورها و حركتها في واقع الإنسان، و من ثم في واقع الروايات التي يكتبها الإنسان، نصا يكون جوهر المعنى في أوله مثل آخره، و في باطنه مثل ظاهره.
وهذا يعيدنا، مرة أخرى، إلى الحاجة إلى " نص" مهيمن مكتوب نستطيع به أن نتجاوز كل المذاهب الأدبية بما في ذلك الحداثة و ما بعدها، و البنيوية و ما بعدها، فهل عرف القارئ، الآن، ذلك النص المهيمن الذي يغير و لا يتغير، و الذي يعلو و لا يعلى عليه؟
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[31 Aug 2005, 05:16 م]ـ
أجل ... إنه " نص" القرآن كلام رب العالمين، عز و جل، (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) سورة فصلت الآية (42)
هذا هو النص المكتوب الثابت الذي يمكن الدخول إليه لدراسة بنية واقع الإنسان بشكل مباشر و شامل و صادق، و هو النص الذي يحيل إلى الواقع بكل مستوياته السبعة، و هو النص المفتوح الشامل الحقيقي الذي يمكن أن نفهم منه معنى الحكايات كلها، و الروايات كلها، و النبوءات كلها، و الظواهر كلها، و البواطن كلها، و هو النص المهيمن ذو المعنى المهيمن، الذي يغير و لا يتغير، و الذي يعلو و لا يعلى عليه، و لكن ما علاقة " نص" القرآن الكريم بكتابة النص الروائي المنتظر؟
عشرون سنة مرت بي و أنا أركض غريبا، وحيدا، فوق عيني غشاوة المصطلحات، في صحراء تصفر فيها الريح، خلف المعنى المخبوء في "نص" هذه الحياة، و أنا أبحث في بطون الروايات، و أتقلب بين صفحات كتب النقد الأدبي و مصطلحاته. تغربت هنا و هناك، إلى أن وصلت إلى صحراء البنيوية و ما بعد البنيوية، و ازدادت الغربة وازدادت الغشاوة و ازداد صفير الريح. بحثت عن نظرية للنص، تفضي إلى نص روائي جديد، عند " بارت" و دريدا و كثيرين غيرهم، قرأت عن النص المفتوح و النص المغلق، و في كل مرة تزداد في عيني غشاوة المصطلحات، و يزداد في أذني صفير الريح. و ذات يوم، حين فتحت عيني بعد أن هدأت الريح، و جدت بين يدي شيء من أوراق مبعثرة لمصطلحات ما بعد البنيوية، وشيء من علم قليل؛ فضاق صدري، و انفجرت و تفجرت و فجرت ... ، و ثرت على البنيوية و ما بعدها و مصطلحاتها، فماذا وجدت؟
¥