تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لقد لاحظتُ أن الذين يُزْرُون على جنة القرآن هم من أشد الناس طلبا للدنيا وتطلعا إليها وانخراطا فيها وسعارا محموما خلف لذائذها، ومنهم هؤلاء المبشرون الفَسَقَة العَهَرَة الذين كانوا ولا يزالون يمثلون طلائع الاستعمار والاحتلال الغربى لبلادنا وبلاد كل الشعوب المستضعفة، ذلك الاستعمار الذى يريد أن يستمتع بطيبات الحياة دوننا ويترك لنا الجوع والفقر والجهل والمرض والقذارة والذلة والتخلف والشقاء! أليس مضحكا أن يأتى هؤلاء بالذات ليُظْهِروا النفور من تلك اللذائذ؟ فمن هم إذن يا تُرَى الذين سُعِروا بحب الجنس على النحو الذى نعرفه فى بلاد الغرب واقعًا مَعِيشًا وأدبا مكتوبا ولوحاتٍ مصوَّرَةً وأفلاما عارية ومسرحياتٍ عاهرة؟

أفإن جاء الرسول الكريم وقال لنا إنكم ستستمتعون بهذه الطيبات فى الجنة، لكنْ مصفَّاةً مما يحفّها هنا على الأرض من أكدار وشوائب، ومصحوبةً بالمحبة بين أهل الجنة ومشاهدتهم لوجه ربهم العظيم ذى الجلال والإكرام وتمتعهم بالرضا الإلهى السامى عنهم وانتشائهم بالتسبيحات الملائكية حولهم، نَلْوِى عنه عِطْفنا ونشمخ بأنوفنا ونُبْدِى التأفف والتنطُّس؟ إن هذا، وَايْمِ الحق، لَنِفاقٌ أثيم!

سنسمع المنافقين المنغمسين فى شهوات الجسد يتحدثون بتأفف عن هذه اللذائذ التى لا تليق فى نظرهم ببنى الإنسان، وهم الذين يمارسون اللِّواط والسِّحاق مما ينزل بهذا الجسد وصاحبه أسفل سافلين.

وعلى أية حال ما وجه النفور من الجسد وإشباع غرائزه فى اعتدال؟ أليس هذا الجسد هو أحد الوجهين اللذين تتكون منهما الشخصية الإنسانية؟ فما الذى يمكن أن يكون فى ذلك من عيب؟ ترى أمن الممكن أن تقوم الحياة البشرية بعيدا عن الجسد؟ كنت أستطيع أن أفهم وجه الاعتراض لو كنا نقول إن المتع الجسدية هى وحدها المتع التى نريدها، لأن هذا من شأنه أن يُلْغِىَ الجانب الروحى من الإنسان أو على الأقل يتجاهله بما يسىء إلى هذا الإنسان نفسه. أمّا، ونحن لا نقول بهذا، فلست أجد أىّ مسوِّغ للاعتراض إلا العناد الأحمق والنفاق البغيض! وعلى كل حال فالقرآن والأحاديث يلحّان صراحةً على أن أطايب النعيم هى مما لم تره عين أو تسمع به أذن أو خطر على قلب بشر. ثم يستوى بعد ذلك أن تكون هذه المتع الفردوسية متعا جسدية روحية معا أو روحية خالصة الروحانية. ونصوص القرآن والسنة تحتمل هذا وذاك لمن يريد، وإن كان العبد الفقير يرى أنها ستجمع بين الحسنيين بالمعنى الذى شرحتُه، أى أنها ستكون متعا جسدية روحية، لكنْ على نحو غير الذى نعرفه فى هذه الدنيا. المهم أنها ستكون متعا خالصة والسلام!

لقد استند الثعالب المنافقون فى إنكارهم هذا إلى ما نُسِب للسيد المسيح من رده على اليهود الذين أرادوا أن يضيّعوا وقته فى الأسئلة السخيفة فقال لهم إن الناس " فى القيامة لا يزوِّجون ولا يتزوجون " (متى / 22/ 23 – 30)، إذ كان سؤالهم عن امرأة مات عنها زوجها فتزوجها من بعده إخوته الستة واحدا بعد موت الآخر، فلِمَنْ من هؤلاء السبعة ستكون زوجةً فى القيامة؟

والسؤال، كما هو جلىٌّ بيِّن، سؤال سمج سخيف لا يمكن أن يقع إلا فى خيالات المهاويس ولا يراد به إلا التعنت والرغبة فى أن يمسكوا شيئا يتعللون به للتشكيك فى القيامة التى لم يكونوا، كما جاء فى القصة، يؤمنون بها لأنهم من طائفة الصَّدُوقِيِّين المنكرين للبعث. وهو أسلوب يبرع فيه أحلاس المجالس والمجامع الذين يعشقون الظهور والرواج عند العامة، فأراد المسيح أن يقطع عليهم الطريق ولا يعطيهم الفرصة للمضى مع هذا الجدال العقيم! وبطبيعة الحال لن يكون هناك زواج ولا تزويج، فنحن لسنا فى الدنيا، ومن ثم لن نحتاج إلى مأذون أو مسجّل مدنى وشهادات رسمية وما إلى ذلك مما هو معروف هنا فى هذه الحياة الأرضية. وهذا مثل قولنا مثلا إنه لن تكون هناك مطاعم ولا مطابخ فى الآخرة. فهذا شىء، والخروج من ذلك القول بأنه لن يكون هناك طعام وشراب شىء آخر. وعلى نفس القاعدة فإن قول المسيح إنه لن يكون زواجٌ أو تزويجٌ يوم القيامة لا يعنى أنه لن يكون هناك متع مما يحصِّله الإنسان من الاتصال بالجنس الآخر، فهذه المتع قد تتم من خلال الزواج، وقد تتم دون زواج. ومتع الجنة، كما أشرنا آنفا، لن يكون فيها شىء من وجع الدماغ الذى شبعنا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير