تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن، وليس القرآن منهما، فى قليل أو كثير. بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة " الغرانيق " قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام.

وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية.

ولقد قرأت فى كتاب " الأصنام " لابن الكلبى (تحقيق أحمد زكى / الدار القومية للطباعة والنشر / 19) أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة، ومن ثم فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع، إذ يرى أن النبى، عندما كان يقرأ سورة " النجم " وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة، توقَّع بعضُ المشركين ما سيأتى فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحديث إلى المدح بدلا من الذم والتوبيخ ( Ameer Ali, The Spirit of Islam, Chatto and Windus, London, 1978, P.134 ). وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة (فُصِّلَتْ / 26)، فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب.

ولتقريب الأمر أمثِّل لهذه الطريقة بواقعة كنت من شهودها، إذ كان رئيس ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان. وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة: " إن ما بينى وبينك عميق! "، فما كان من زميل معروف بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا: " فعلا! عميقٌ لا يُعْبَر ". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه!

ومن ذلك أيضا ما كان بعض أصدقائنا المدرسين يعابث به تلميذاته إذا رآهن قد أسرفن فى التحمس لقاسم أمين وإبراز أهمية الدور التى تؤديه المرأة فى الحياة، إذ كان، كلما ردّدن أمامه العبارة المشهورة فى هذا السياق من أن " وراء كل عظيم امرأة "، يجيبهن مرة: " طبعا وراءه لا أمامه، فهو صاحب الصدارة والتفوق، أما هى فتابعة له "، ومرة: " فعلا وراءه، والزمان طويل "، ومرة: " وراءه مسوِّدة عيشته " ... وهكذا.

ورغم أننا قد فنَّدنا هذا السخف الساخف فإنّا لنستغرب ذلك الضجيج الذى يُحْدِثه هؤلاء الأوباش حول رسولنا الكريم بسببه. ذلك أنهم يقولون إنه ما من نبى من أنبياء الكتاب المقدس إلا قد ارتكب خطيئة أو أكثر من العيار الثقيل حسبما جاء فى هذا الكتاب ذاته: فإبراهيم تخلى عن زوجته لفرعون مدّعيا أنها أخته وتركها له يفعل بها ما يشاء خوفًا على حياته، وكان من الممكن أن ينال الملك ما يشتهى منها لولا أن الله قد ضربه هو وأهله ضرباتٍ عظيمة كما يقول مؤلف " سفر التكوين " (12/ 11 – 20)، فعرف أن سارة ليست أختا لإبراهيم بل هى زوجته. وموسى يقدم على قتل المصرى بدم بارد وخسّة حقيرة وجبن واضح. وهارون يصنع العجل لبنى إسرائيل ليعبدوه ويرقصوا وهم يطوفون به عراةً أثناء غياب موسى فى الطور عند لقائه بربه. وداود يزنى بامرأة قائده ثم يدبر مؤامرة إجرامية خسيسة لقتله والتخلص منه ليفوز بالزوجة، وكان له ما أراد. وسليمان ينظم نشيدا كله عهر وإغراء بالفاحشة، كما ينزل على رغبات زوجاته الوثنيات فيصنع لهن أصناما يعبدنها فى بيته إرضاءً لهن ... إلخ. وهؤلاء المتنطعون يقولون إن وقوع الأنبياء فى الخطايا أمر طبيعى لأنهم بشر. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا، يا أيها المتنطعون، لا تنظرون بنفس العين إلى غلطة الغرانيق بافتراض أنها وقعت بالفعل، وبخاصة أنها لا ترقى أبدا إلى ما فَرَط من أىٍّ من أنبياء كتابكم حسبما تقولون أنتم أنفسكم، فقد حُذِفت الآيتان المذكورتان فى الحال ولم تُسَجَّلا فى القرآن قط؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير