نهائيا فى عهد عثمان على عكس ما نظن، وإنما ظل الصراع حوله محتدما حتى القرن الرابع الهجرى حين أُغْلِق نهائيا باتفاق ضمنى بين السنة والشيعة، وذلك لأن استمرارية الصراع كانت ستضر بكلا الطرفين. بعدئذ أصبح معتَبَرًا كنَصٍّ نهائى لا يمكن أن نضيف إليه أى شىء أو نحذف منه أى شىء، وأصبحوا يعاملونه كعمل متكامل على الرغم من تنوع سوره واختلافها فيما بينها من حيث الموضوعات والأساليب" (محمد أركون/ القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 114 - تعليق بالهامش).
وهذا كلام ككلام السكارى لا قيمة له! هل رأيت سكران وهو يتطوح فى الخمارة ثم يسقط تحت الأقدام صائحا بملء فمه: "أنا جدع"؟ فهذا مثل هذا، وإلا فليقل لى أركون أو تابعه: أَنَّى لهما بهذا الكلام الذى لم يرد فى كتب الأولين ولا الآخرين؟ ومتى اتفق السنة والشيعة على ما اتفقوا عليه؟ وأين؟
ربما كان ذلك فى شقة الدكتور أركون وبحضور هاشم صالح فى تلك الجلسة التى نزل الدرويش بعدها إلى شوارع باريس يستعجل، فى حسرة تقطِّع القلوب (قلبى أنا على الأقل حتى لقد كدت أبكى لولا بقية من تماسك، رغم نفورى من أم الخبائث نفورا فطريا)، مجىء اليوم الذى تصبح فيه المدن العربية مثل باريس تعج بخمارات كتلك
التى تتلألأ أضواؤها من حوله؟ (الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد/ 229 - 230).
أقول: "ربما"، فأنا لم أكن حاضرا هذا اللقاء التاريخى الذى كان شيخ الطريق ودرويشه يقرران فيه مصير الإسلام.
فانظر أيها القارئ الكريم لهذه البهلوانيات التى يراد منا أن نأخذها بجِدٍّ واهتمام بوصفها آخر المنجزات الفكرية.
لكن، أيها الدرويش، هل نفهم من أن القرآن ظل نصًّا مفتوحا إلى القرن الرابع الهجرى أنه قد دخله مثلا بعض من رسائل عبد الحميد، على شىء من عبارات الجاحظ، على سطور من سهل بن هارون، على عدة سجعات من أبى العلاء ... إلى آخر هذه الزمرة من الكتاب؟ فكيف يا ترى يمكن أن تختلط أساليب أمثال هؤلاء وأفكارهم بأسلوب
القرآن وفكره، وهم عندك أنت وشيخك أرقى من محمد، ومخيالُهم الجماعى (الله يخرب بيت هذا المخيال الجماعى الذى رَبَّى لى العَصَبِىّ!) أكثرُ تحضرا وأعمق ثقافة من مخيال المجتمع الذى كان ينتمى إليه محمد؟ طيب، هل تستطيع أنت أو شيخك العبقرى أن تتشطَّر وتدلّنا ولو على رقعة واحدة (واحدة فقط!) من تلك الرقع الأسلوبية والفكرية التى دخلت القرآن طوال تلك القرون الأربعة؟
ثم أين كانت أمة المسلمين من ذلك كله حتى إنها لم تعترض أو حتى تعلق مجرد تعليق؟ أكانت مغيَّبة عن الوعى كلها على بكرة أبيها (إلا أنت وأستاذك طبعا، و! إلا فكيف عرفتما ما عرفتماه؟) إلى أن تم المراد فأعطَوْها حقنة منبِّهة فقامت لتجد نفسها قد فقدت الذاكرة فى تلك الأثناء فلم تعرف ماذا تم؟ أم كانت معك أنت وشيخك فى الشقة فسقيتموها "حاجة أصفرة"، فسقطتْ لتوها لكونها متخلفة لم تتعود على هذا اللون من الشراب، إذ إن شرابها هو الماء القراح الذى لا يعرف غيره عباد الله المتخلفون؟
وعلى نفس النحو من اللامبالاة بالعلم وحقائق التاريخ يدعى د. أركون أن المسلمين لم يحاولوا قط منذ القرن الرابع الهجرى أن يفتحوا الملف الشائك الخاص بقضية جمع القرآن، وهى دعوى كاذبة، فالمعروف أن الكلام والبحث فى تاريخ القرآن وجمعه وقراءاته ورسمه ومكّيّه ومدنيّه وناسخه ومنسوخه وتلاوته وأسباب نزوله وإعرابه لم يتوقف يوما حتى هذه اللحظة.
ومن الأسماء التى يمكن أن نذكرها بعد القرن الرابع ممن كتبوا فى ذلك الموضوع هذه العينة الضئيلة جدا، وهى مجرد مؤشّّر لما وراءها: مكى بن أبى طالب (ق 4 - 5هـ) والواحدى (ق 4 - 5هـ) والدانى (ق 5هـ) والشاطبى (ق 6هـ) والسخاوى (ق6 - 7هـ) وابن أبى الإصبع المصرى (ق 6 - 7هـ) والخراز (ق 7 - 8هـ) والعُكْبَرى (ق 7هـ) والزركشى (ق 8هـ) وابن القاصح (ق 9هـ) وابن الجزرى (! ق 9هـ) والطبلاوى (ق 10هـ) والسيوطى (ق 10هـ) والدمياطى البنا (ق 12هـ) والصفاقسى (ق 12هـ)، وحفنى ناصف والزرقانى ومحمود خليل الحصرى ولبيب السعيد وصبحى الصالح ومحيى الدين الدرويش وعبد الصبور شاهين (ق 20 م).
¥