مريم"، "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه"، "وقالت اليهود: يد الله مغلولة"، "فقد كذَّبوا بالحق لما جاءهم"، "انظر كيف كذَبوا على أنفسهم"، "وَذَرِ الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولَعِبًا وغَرَّتْهم الحياة الدنيا"، "وما قَدَروا الله حَقَّ قَدْره"، "وجعلوا لله شركاءَ الجِنَّ" ... إلخ إن كان لذلك من آخر.
لكنك، يا بروفيسير، لا بضاعة علمية لديك ذات قيمة. إنما هى الحذلقة والانتفاش بما تظن أنه عندك من العلم
الخطير العميق، وما هو بعميق ولا خطير.
ومما قاله سيادته أيضا فى تحليله للسورة إن أداة التعريف "أل" التى تكررت فى قوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" تدل على أن "هذه التراكيب هى عبارة عن مفاهيم أو أصناف أشخاص محدَّدين بدقة من قِبَل المتكلم وقابلين للتحديد من قِبَل المخاطب عندما يصبح بدوره قائلا أو متكلما" (ص 127).
ويزيد تابعُه " ... " الأمرَ بيانا فيعلّق فى الهامش قائلا إن "المقصود بذلك أن كلمة "المغضوب عليهم" أو "الضالين" تدل على أشخاص محدَّدين بدقة فى مكة، وكانوا معادين للرسالة الجديدة، ولذلك دُعُوا بـ"المغضوب عليهم"
و"الضالين".
ولكن القرآن لا يحدد أسماءهم، وإنما يترك الصياغة عامة شمولية تنطبق على أعداء هذا الدين فى كل زمان ومكان، مع أن المفسرين لا يذكرون أبدا أن المقصود أحد من أهل مكة، فضلا عن أن يحددوا هذا "الأحد"، بل الموجود عادة فى كتب التفسير أنهم اليهود والنصارى، وإن كنت أفهم الكلام فى الآية على أنه عام لا يختص بقوم دون غيرهم.
ولو كان القرآن يقصد أشخاصا بأعيانهم كما يزعم بروفيسيرنا لجاء تعبيره مختلفا مثلما هو الحال فى قوله تعالى: "عبس وتولَّى* أنْ جاءه الأعمى"، "أفرأيتَ الذى تولَّى* وأَعْطَى قليلا وأَكْدَى؟ * أعنده علم الغيب فهو يَرَى؟ "، "ذَرْنِى ومن خلقتُ وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * ومهَّدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد "، حيث يدل السياق الحكائى والتعبير اللغوى على أن الكلام يدور على شخص بعينه وليس كلاما عاما.
أى أنه ليس فى أسباب النزول الخاصة بالسورة ولا فى طريقة التعبير فيها ما يمكن أن يفهم منه أن المقصود بـ"الضالين" و"المغضوب عليهم" أشخاص معينون من أهل مكة، وبخاصة أن "فاتحة الكتاب" هى النص القرآنى الوحيد الذى يجب الصلاة به، وفى كل ركعة منها لا فى واحدة وكفى، ولا تصحّ الصلاة من دونه، فلا يعقل أن يكون مدارها على شخص أو أشخاص بأعيانهم.
وهكذا ترَوْن، أيها القراء، كيف أن الرجل الذى يقلل من شأن النحو واللغة فى عملية التفسير القرآنى كما رأينا، لم يستطع أن يتجاهل فيما يسميه: "تحليل الخطاب القرآنى" اللغة ولا النحو، لكن دون أن يستطيع الاستفادة منهما للأسف.
ليس هذا فحسب، بل ثمة ارتباك واضطراب فى استعمال المصطلحات النحوية واضحان، وهو ما يؤكد ما قلناه مرارا عن قلة بضاعة البروفيسير من العلم بالموضوع الذى تصدى له رغم أنه هو الميدان الذى تخصص فيه وأصبح أستاذا.
وهذا كل ما يقدمه لنا الدكتور أركون من خلال ما يسميه: "تحليل الخطاب الدينى"، وهو لا يشفى غليلا ولا يزيد القارئ علما بشىء فى السورة، فلا رجوع لأسباب النزول ولا تعمق فى تحليل دلالات الاختيارات المعجمية أو الصيغ الصرفية أو التراكيب النحوية التى رُوعِيَتْ فى كلمات السورة وبناء جملها وما فيها من تقديم وتأخير وحذف وذكر وتكرير وما إلى ذلك، ولا التفات لما تريد السورة أن تغرسه فى عقل المسلم وقلبه من عقائد ومشاعر ومفاهيم مما تعج به كتب التفسير، التى لا تعرف هذه البهلوانيات الألسنية الضحلة، ويعمل الأستاذ الدكتور عبثا على التقليل من شأنها.
إن ما نطالبه به هو من الأمور الصعبة التى تحتاج إلى صبر وجِدّ، ولا يصلح فيها التنفج الكاذب، ومن هنا ينصرف عنها النابتة الجديدة الذين يُسَمَّوْن بـ"الكتاب الحداثيين" ممن يقبلون بغَشْم على نصوص الأدب والقرآن فيعيثون فيها فسادا كما يفعل الثور الهائج حين يقتحم محلا لبيع تحف الخزف، فهو يدوسها بأظلافه وينطحها بقرونه لأنه لا يدرك قيمتها!
¥