وهذا المتنطس الذى لا يعجبه المنهج الذى يتبعه المفسرون المسلمون والذى يستعينون فيه، ضمن ما يستعينون، بالنحو والصرف والبلاغة، يغرق فى شبر ماء أمام كلمة " أَمْ " الواردة فى الآية التاسعة من السورة الثانية التى يريد تحليلها على منهجه (أو "بروتوكوله" حسب تعبيره، وكأننا بصدد تشريفات ملكية)، وهى سورة "الكهف" فلا يجد إلا ما يقوله الجاهل ريجى بلاشير (الذى أعماه الله سبحانه فى أخريات حياته حتى يكون عَمَاه من العَمَى الحيسى ويجمع بين عمى البصيرة والبصر)، فيردده فرحا به كأنه وقع على كنزٍ شماتةً منه بالقرآن، وكان الأحرى به بدلا من هذا أن يشعر بالخجل لأنه دائم التنفج فى كتاباته بأن منهجه الجديد (الذى هو آخر صيحة فى عالم الأزياء التحليلية) يختلف عن منهج المستشرقين السابقين البالى. إلا أن الكيد للإسلام يستحق أن يلحس أركون كلامه وتنفجاته وينسى ما صدع رؤوسنا به فى كثير من كتاباته ويجرى وراء المستشرقين الذين كانوا لا يعجبونه مرددا كلامهم.
فماذا قال بلاشير وردده وراءه أركون دون أن يتمعن فيه؟
قال بلاشير إن "أَمْ" هذه لا تستعمل إلا للتناوب أو المفاضلة بين شيئين، لكن الملاحَظ أنها فى آيتنا هذه لا يسبقها شىء يمكن أن يشكّل الطرف الآخر فى عملية التناوب، ومن ثم فإن الآيات قد تعرضت لعملية تلاعب، وهذا التلاعب يدل عليه غياب الطرف الآخر للتناوب (ص 148).
يقصد أن "أم" فى قولنا مثلا: " أتأكل تفاحا أم كمثرى؟ " هى للمناوبة بين هاتين الفاكهتين اللتين ينبغى أن تختار واحدة منهما فقط.
لكن فات بلاشير ومقلده أن " أم " لا تنحصر فى هذه الوظيفة، بل لها عدة وظائف: ففى قوله تعالى: "سواء عليهم أأنذرتَهم أم لم تُنْذِرهم: لا يؤمنون" نراها تدل على أنه لا فائدة فى هذا أو ذاك، فالنتيجة واحدة فى الحالتين. أما فى قولنا: " أزيد عندك أم عمرو؟ " فتدل على الرغبة فى تحديد الموجود من الشخصين. وتسمى "أم" فى هذين التركيبين: "أم المتصلة"، لأنها متصلة بما قبلها، وهذا ما ظن بلاشير ومقلده أنه كل مهمتها.
لكنهما قد فاتهما (أو بالأحرى: "فات بلاشير وحده" لأن أركون هنا إنما هو مجرد مردِّد لما قاله بلاشير دون تمعن، فينبغى ألا يُحْسَب له حساب) فات بلاشير أن هناك "أم" أخرى هى "أم المنقطعة" التى ليس للاسم الذى بعدها مناوبٌ قبلها، بل تنشئ كلاما جديدا كما هو الحال فى الآية محور الكلام، ونصها: "أم حَسِبْتَ أن أصحاب الكهف والرَّقِيم كانوا من آياتنا عَجَبا؟ "، والتى يقول المفسرون إن معناها هنا "بل أ ... ؟ "، وإن كانت تأتى أحيانا بمعنى "بل" فقط دون همزة كما فى قوله تعالى: "فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا؟ " (النساء/109).
وأنا أضيف حالتين أُخْرَيَيْن: أولاهما تأتى فيها "أم" للمناوبة بين طرفين، لكن الطرف الأول لا يُذْكَر، بل يُفْهَم ضمنيا من الكلام السابق، كما فى قول أحدنا مثلا: "رأيى أن تأخذ فلانا باللين والهوادة وأن تصبر عليه طويلا، ولسوف يَصْلُح حاله بهذا الأسلوب إن شاء الله. أم لك رأى آخر؟ ". والمعنى: "أتوافقنى على رأيى هذا أم إن لك رأيا آخر؟ "، إلا أن عبارة "أتوافقنى على رأيى هذا " ليست مذكورة فى الكلام كما هو واضح، بل تُفْهَم فهمًا من السياق.
والأخرى بمعنى: " أَتُراك ... ؟ "، وهذا المعنى الأخير لا يكون إلا فى بعض حالاتِ مجيئها منقطعة، وأنا أفهم الآية على هذا المعنى.
ومع ذلك كله لقد كان ينبغى على بلاشير ومقلده ألاّ يُطَنْطِنا بهذا الذى طَنْطَنَا به، فالنبى الذى جاء بالقرآن (أو "اخترعه" كما يقول من لا يؤمنون بنبوته عليه السلام) عربى، ومن ثم فإن ما يقوله هو الصواب لا ما يُرْجِف به هؤلاء الأعاجم.
وحتى لو قلنا إن المسلمين قد غيَّروا فى القرآن من بعده صلى الله عليه وسلم، فالذين غيروا فيه هم أيضا عرب، ومن ثم فما يقولونه هو الصواب.
أليس هذا ما يمليه المنطق؟
لكن القوم، حين يتعلق الأمر بالإسلام والقرآن، لا يهتمون بمنطق ولا عقل، بل تشغلهم أحقادهم وتُذْهِلهم عن كل شىء!
وهذا الاستعمال قد تكرر فى القرآن كثيرا جدا بحيث لا يمكن، مهما تسامحنا مع الببغاوات، أن نظن أنه خطأ فى كل هذه المواضع! اللهم إلا أن يكون العرب والمسلمون من الجهل والبلادة فى لغتهم بدرجة ليس لها نظير فى التاريخ!
¥