تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لقد قلتَ إن نولدكه المستشرق الألمانى "ما يزال يُعتبَر حتى اليوم من كبار المستشرقين المتخصصين في العلوم القرآنية. ولم يكن اقترابُ نولدكه من القرآن اقترابًا مضادًّا للوحي، بل قام بدراسات تحليلية ومنطقية ولغوية للنص نفسه، وأشار إلى ما جاء في النص القرآني من المزايا اللغوية والخصائص. كما أشار إلى بعض الظواهر اللغوية التي لا تتماشى برأيه مع قواعد اللغة المسلّم بها نظرًا لمعرفتهِ باللغات الساميَّةِ الأُخرى: العِبرْانية، السيريانية، الحبشية، واليمنية القديمة". وإنى سائلك سؤالا بسيطا جدا: ولماذا لم نر مستشرقا، نولدكه أو غير نولدكه، يخطِّئ امرأ القيس مثلا أو طرفة أو حسان بن ثابت كما يخطئون القرآن لو كانت المسألة هى أن رصيفك الألمانى قد حلل أسلوب القرآن وخرج بأنه لا يتماشى مع القواعد اللغوية المسلَّم بها؟ لماذا تخطئة القرآن فحسب؟ فليكن القرآن من عند محمد أو من عند الشيطان نفسه، أيمكن نولدكه أن يزعم أنه يعرف لغة محمد خيرا مما كان محمد يعرفها؟ ولنفترض أنه قد ركبه العناد والغرور، بل بالحَرَى: الجنون، وقال: نعم، أنا أذكى من محمد وأَعْرَف منه بلغة قومه، وأستطيع أن أكتشف أخطاءه الأسلوبية، أَوَتظنّ أنت أن هذا موقف علمى سليم بعد أن لم نر أحدا من العرب المعاصرين لمحمد، مَنْ آمن منهم به ومَنْ لم يؤمن، يخطِّئه فى لغته؟ إن أقصى ما بدر منهم، فى قمة حِرَانهم وردّهم على تأكيده لهم أنهم أعجز من أن يأتوا بسورة من مثله، أن قالوا: "لو نشاء لقلنا مثل هذا"! ثم إنهم لم يقولوا مثل هذا ولا أفضل من هذا! أما الطنطنة باللغات السامية وغيرها فما دخلها فى الأمر؟ أترى العرب لم يكونوا يتكلمون بشىء من لغتهم إلا بعد الرجوع إلى "مجمع اللغات السامية المقارن" فى سوق عكاظ وأخذ الإذن منه مُوَقَّعًا من نولدكه ومختومًا بخاتمه؟ إننى أحتكم هنا إلى ضميرك العلمى: أهذا الذى حاولتَ الدفاع به من تحت لتحت عن نولدكه كلام منطقى وليس حذلقة علمية يراد بها بصراحة، ودون لف أو دوران، الإيهام بوجود أخطاء فى لغة القرآن؟ فهذا، يا دكتور مورانى، هو الذى يضايق الباحثين العرب والمسلمين، إذ يَرَوْن المستشرقين يخرجون على مناهج العلم وقواعد المنهج عند دراستهم لكتاب الله!

ثم كيف عرف نولدكه يا ترى قواعد اللغة المسلَّم بها؟ هل استقصى كل جوانب اللغة العربية ومضى فطاف بقبائل العرب فى الجاهلية وصدر الإسلام مَضْرِبًا مَضْرِبًا وسجَّل كل شىء فاهوا به وتأكد أنه لم يترك شاردة ولا واردة من لغتهم إلا غذّى بها حاسوبه، ثم تأكد مرة ثانية أن محمدا قد خرج على ما كانت العرب تنطق به؟ وحتى لو افترضنا المستحيل وقلنا إن نولدكه قد استطاع هذا فعلا، أليس من حق محمد، بوصفه ابنا من أبناء تلك اللغة، أن يشارك فى صنعها وتطويرها مثلما يفعل أى أديب أو كاتب فى أية لغة من لغات العالم قديما وحديثا ومستقبلا؟ ألا يعرف نولدكه أن ما يقوله محمد وأمثاله هو المعيار اللغوى الذى ينبغى أن يقاس عليه لا العكس، وبخاصة أن العرب لم يكونوا قد استخلصوا قواعد لغتهم بعد؟ إننى لا أستطيع أن أنسى كيف كنت فى صغرى سريعا إلى تخطئة ما كنت، لسذاجتى، أحسب أنه هو اللغة الصحيحة الوحيدة، وكيف أنى كلما كبرت واتسع إدراكى اللغوى والأسلوبى اتضح لى أن ما نجهله من اللغة أضعاف أضعاف أضعاف أضعاف أضعاف ... ما نعرفه. ثم إن اللغة لا يحكمها المنطق الصارم دائما، بل فيها ما فى الحياة من مورانٍ وغليانٍ وتأبٍّ على القوالب الجامدة فى غير قليل من الأحيان. ولا أنسى مثلا أن د. رمضان عبد التواب قد خطّأنى ذات مرة فى ثمانينات القرن الماضى حين رآنى أدافع عن تكرير "بين" مع اسمين ظاهرين، قائلا إن هذا الاستعمال لم يرد فى القرآن، فما كان منى إلا أن رددتُ عليه بعفوية شاب يظن أنه يستطيع أن يفكر أحيانا ويشغّل مخه: ومن قال إن القرآن يستوعب كل الإمكانات اللغوية فى لسان العرب؟ فعاد يقول إن العلماء متفقون على تخطئة تكرار "بين" فى هذا السياق. وبدورى عدت فقلت له: لكن هناك استعمالات تقتضى الكاتب هذا التكرار منعا للَّبس. ثم أعطيته مثالا سريعا خطر لى آنذاك. وانتهت المناقشة دون أن نتفق على شىء.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير