وتصادف أنى كنت أقرأ فى أحد كتب التفسير بعدها بفترة قصيرة (ولعله تفسير البيضاوى) فألفيته يقول إن هذا الاستعمال صحيح، وإن لم يكن حسنا. فكتبت هذا النص وأعطيته له. ثم تصادف مرة أخرى بعدها بشهور طويلة أن كنت أقرأ فى تفسير الطبرسى حين وقعتُ على بيتين جاهليين تكررت فيهما "بين" فى هذا السياق أيضا، فكتبتهما وزوّدته بهما. لكنى فوجئت بطلابى يقولون بعدها بقليل إن سيادته يؤكد لهم أن هذا الاستعمال خاطئ تماما، وهو ما اضطرنى إلى أن أحكى لهم، وأنا أضحك، القصة كلها من "طق طق" لـ"سلام عليكم"، لكنهم لم يقتنعوا. "طُظْ" فيهم وفى عدم اقتناعهم! ثم مرت الأيام، وذهبتُ فى إعارة للسعودية، وبينما كنت أكتب فصلا هناك عن "معجم البلدان" لياقوت الحموى، خطر لى بعد الفراغ من البحث أن أراجع الأبيات الشعرية التى كان الشعراء الجاهليون والإسلاميون يحدّدون فيها أطلال حبائبهم مستخدمين كلمة "بين" لأفاجأ بأنهم كانوا يكررونها أحيانا مع الاسمين الظاهرين. وقد وضعت يدى وقتها على نحو ثلاثين شاهدا من عصور الاحتجاج اللغوى، وأوردت معظمها فى كتابى "من ذخائر المكتبة العربية"، وحكيت القصة باختصار ودُون ذكر أسماء فى الفصل الخاص بكتاب ياقوت. لكن المضحك أكثر أننى عندما عدت من السعودية وأطلعت الأستاذ الدكتور على الشواهد التى وصلتُ إليها كان رده: وهل راجعتَها فى دواوين الشعراء أنفسهم؟ فقلت له: كلا. ولكن لماذا؟ فكان جوابه أن ياقوتا كثيرا ما كان يخترع مثل هذه الأبيات!!! فقلت له: وهل تظن يا دكتور أن ياقوتا كان يضع فى ذهنه منذ ذلك التاريخ أنك ستكون من الذين يقولون بخطإ هذا الاستعمال، فاخترع كل تلك الأبيات كى يغيظك مقدما، ثم سكت عليه العلماء طوال هاتيك القرون فلم يفضحوا تدليسه؟ وعلى أية حال هأنذا أسوق هنا للقراء الكرام بعض الشواهد على هذا التركيب من شعر عصور الاحتجاج، وأغلبيتها الساحقة شواهد جديدة. من ذلك قول الأخطل:
وَكَأَنَّما نَسِيَتْ كُلَيبٌ عَيْرَها ** بَينَ الصَريحِ وَبَينَ ذي العُقّالِ
وقول الأعشى:
هُوَ الواهِبُ المُسمِعاتِ الشُّرو ** بَ بَينَ الحَريرِ وَبَينَ الكَتَنوقول الشَّنْفَرَى:
خَرَجْنا مِنَ الوادي الَّذي بَينَ مِشْعَلٍ ** وَبَينَ الجَبا. هَيهاتَ أَنشَأتُ سُرَبتيوقول العجير السَّلُولِىّ:
أَبلِغ كُلَيْبًا بأنَّ الفَجَّ بينَ صَدَىً ** وبينَ برقةِ هُولي غيرُ مسدودِ * * *
وَلِلعادِياتِ القَهْقَرى بينَ رِيِّهِ ** وبينَ الوِحافِ مِن كُماتٍ وَمِن شُقْرِوقول الفرزدق:
وَطِئَتْ جِيادُ يَزيدَ كُلَّ مَدينَةٍ ** بَينَ الرُدومِ وَبَينَ نَخلِ وَبارِوقول النمر بن تولب:
بَينَ البَدِيِّ وَبَينَ بُرقَةِ ضاحِكٍ ** غَوثُ اللَهيفِ وَفارِسٌ مِقدامُ * * *
يا وَيلَ صُهْبى قُبَيلَ الريحِ مُهذِبَةً ** بَينَ النِجادِ وَبَينَ الجَزْعِ ذي الصوحِوقول النميرى:
تَراءَت لَنا يَومَ فَرعِ الأَرا ** كِ بَيْنَ العِشاءِ وَبَيْنَ الأَصلْوقول امرئ القيس:
قَعَدتُ لَهُ وَصُحبَتي بَينَ ضارِجٍ ** وَبَينَ تِلاعِ يَثلُثٍ فَالعَريضِوقول بشار:
بَينَ أَبي جَعفَرٍ وَبَينَ أَبي الـ ** عَبّاسِ ذاكَ الشِتا وَذا المَطَرُ * * *
بَينَ أَبي جَعفَرٍ وَبَينَ أَبي الـ ** عَبّاسِ مِثلُ الرِئبالِ مُحتَجِبا * * *
فَشَتّانَ بَينَ العامِرِيِّ اِبنِ واقِدٍ ** وَبَينَ اِبنَةِ الزَيدِيِّ إِذ كامَها عَفدا * * *
فَلَهُ زَفرَةٌ إِلَيكِ وَشَوقٌ ** حالَ بَينَ الهَوى وَبَينَ الهُجودِوقول توبة بن الحميّر:
وقسورةَ الليلِ الذي بينَ نصفهِ ** وبين العِشاء قد دأبتُ أسيرُهاوقول حاتم الطائى:
أَيُّها المُوعِدي، فَإِنَّ لَبُوني ** بَينَ حَقلٍ وَبَينَ هَضبٍ ذُبابِوقول حسان بن ثابت:
نَغدو بِناجودٍ وَمُسمِعَةٍ لَنا ** بَينَ الكُرومِ وَبَيْنَ جَزْعِ القَسطَلِوقول عامر بن الطفيل:
وَسَعَّت شُيوخُ الحَيِّ بَينَ سُوَيقَةٍ ** وَبَينَ جَنوبِ القَهرِ ميلَ الشَمائِلِوقول عبيد بن الأبرص:
إِلى ظُعُنٍ يَسلُكنَ بَينَ تَبالَةٍ ** وَبَينَ أَعالي الخَلِّ لاحِقَةِ التاليوقول عدى بن يد:
وَجاعِلُ الشَمسِ مِصْرًا لا خَفاءَ بِهِ ** بَينَ النَهارِ وَبَينَ اللَّيلِ قَد فَصَلاوقول عمر بن أبى ربيعة:
حَيِّ المَنازِلَ قَد تُرِكنَ خَرابا ** بَينَ الجُرَيْرِ وَبَينَ رُكنِ كُساباوقول قيس بن الخطيم:
¥