تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أليس هذا يدعو الى الريب من جديد؟ فكيف نوفق بين هذا وبين نفي الريب بمجرد العجز الشخصي عن الإتيان بمثل سورة من القرآن كما هو مفهوم؟

وكل مؤمن بالقرآن يعتقد ان تحدي القرآن مطلق لا نسبي.

ثم هنا أمر آخر يستفاد من الجملة الاعتراضية"-ولن تفعلوا-".فالنفي ب"لن" يفيد التأبيد ... يعني لن يكون فى مقدور الإانس والجن الإتيان بمثل سورة في كل الأزمان المستقبلة. لا شك عند المؤمن بالقرآن في صدق الله تعالى في ما أخبر ... لكن التحدي هنا للكافر الشاك .... ولا يعقل أن يصادر القرآن على المطلوب ... فلا بد أن يكون الكافر المتحدى عنده يقين بعدم استطاعة الإنسان -لا هو ولا غيره- فى الاتيان بمثل القرآن ... وهذا اليقين ينبغي أن يكون بمصدر آخر غير إخبار القرآن ... وهذا اليقين من جهة أخرى ينبغي أن يزيل كل ريب ... ومن جملته احتمال القدرة المستقبلية فى الاستجابة للتحدي فى يوم ما ومكان ما. .. بدون هذا كله لن يكون التحدي حقيقيا. مثلا قد يقول قائل: لن يفعلوا لأن الله سيصرفهم عن ذلك ... وهذه هي نظرية الصرفة التى تبناها "النظام المعتزلي"ويكفى أن نشير الى أنها نظرية متهافتة ... يتبرأ منها المعتزلة أنفسهم. فكأن النظام نسي المبدأ الثاني فى عقيدة الاعتزال: كيف يكون العدل فى انتصاب التحدي مع سلب قدرات الانسان؟ وهذا اعتراض وجيه على اصول المعتزلة ... وهو وجيه على أصول أهل السنة أيضا بالنظر الى صفة "الحكمة".

ثم الحكم غيبا على المستقبل يتورع عنه كل عاقل ... الا إذا كان المحكوم عليه محال بشهادة العقل .... أو إخبار الشرع عند المؤمن به.

لكن التحدي القرآني حقيقي ومطلق, نقطع معه عقلا بزوال الريب حاضرا ومستقبلا.

كيف ذلك؟

جوابنا يعتمد مرة أخرى على مفهوم "الاعجاز فى اللغة":

ولتقريب البرهان الى الأذهان نضرب المثل التالي:

لو كانت المعجزة الخاتمة من نوع" علمي تقني" كسلاح نووي أو آلة غير معهودة فى الزمن الماضي ثم تحدى صاحب المعجزة قومه ... فهل سيكون التحدي صحيحا؟

لا ....

لأن التحدي هنا نسبي ... صحيح إن بعض القوم سيؤمنون بالنظر الى شخوص "المعجزة" أمام أعينهم لكن هذه المعجزة بعينها فى عيوننا -نحن المعاصرين- ليست كذلك ويستطيع بعضنا أن يأتي بمثلها أو أفضل منها أو قريبا منها. (لهذا يخامرني الشك فى مصداقية ما يسمى بالاعجاز العلمي ... لأنه يقوم على فكرة النسبية فيقولون لم يكن هذا معروفا فى الماضي .... وهو معروف اليوم. وأرى أن التحدي ينبغي أن يكون مطلقا كما فى آيتي البقرة السالفتين. ولعلنا نخصص كلاما فى الموضوع أن شاء الله لاحقا.)

لكن تأملوا فى ظاهرة اللغة واعتبروا هاتين الخاصيتين:

-الخاصية الاولى: اللغة فى ملك كل عاقل. ولعلها الشيء الوحيد الموزع بالتساوي بين الصغيروالكبير والمراة والرجل والبدوي والحضري (وليس العقل كما زعم ديكارت).وانظروا تبعا لذلك لعموم التحدي بالقرآن ... فلو كان بشيء علمي لقيل هو خاص بالعلماء ولو كان بمهارة لقيل هو خاص بمن لهم نوع تلك المهارة. لكن التحدي كان باللغة التي تعرفها العجوز ويتقنها الصبي.

-الخاصية الثانية:-وهي العمدة فى كل استدلالنا وردنا-اللغة هي الشيء الوحيد الذي لا يتصور أن يتفوق فيه الخلف على السلف. صحيح يجوز ان يكون علم الخلف أفضل من علم السلف ... وسياسة الخلف أمضى من سياسة السلف وأعمار الخلف أطول من أعمار السلف الخ ... لكن قطعا ... قطعا لا يمكن للخلف أن يتفوقوا على السلف فى اللغة التي علموهم إياها.

لاحظوا أنني لا أتحدث عن تطور اللغة فبإمكان الخلف أن يغيروا من لغتهم جزئيا أو كليا كما حدث عندنا فى ما يسمى باللهجات ... وكما حدث عندهم فى اللاتينية حين اشتقت منها فرنسية واسبانية وايطالية ... لكن هذا المتولد من الاشتقاق ومن التحريف لا يحسب لغة للسلف ...

لكنني أتكلم عن الفصاحة وهو أمر آخر. فامرؤ القيس عندي أفصح من الف ابن تيمية. مع أن الاول مشرك كافر وابن تيمية معدود عندي من عباقرة البشر. كما أن عجوزا فى بادية العرب فى الجاهلية أفصح وأعلم باللغة من المتنبى الذى ملأ الدنيا وشغل الناس ... والسر فى ذلك أن اللغة مفردات اصطلح على معانيها واستعملت في تلك المعاني ... وتطاول الزمن من شأنه أن ينسي بعض المعاني أو يزيد اليها معان جديدة وفى الحالتين معا إما أن تفتقر اللغة أو تحرف.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير