تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

غير أن الطبري روى بإسناده إلى حسان بن مخارق عن عبدالله بن الحرث، أنه هو الذي سأل كعباً عن ذلك، قال: قلت لكعب الأحبار: (يسبحون الليل والنهار لا يفترون ... ) أما يشغلهم رسالة أو عمل؟ قال: يا ابن أخي، إنهم جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس، ألست تأكل وتشرب وتقوم وتقعد وتجيء وتذهب وأنت تتنفس؟ قلت: بلى! قال: فكذلك جعل لهم التسبيح.

قلت: يا ترى، هل كان هو الذي سأل كعباً أو أنه سمع ابن عباس يسأل كعباً؟ في حين أنه لا يقول: سمعت ابن عباس يسأله، بل مجرد أن ابن عباس سأله، الأمر الذي لا يوثق بكون الرواية منتهيه إلى سماع، والظاهر أنه إرسال.

على أنه من المحتمل القريب أن السائل هو بالذات، لكن ابنه إسحاق كره نسبة السؤال من مثل كعب إلى أبيه، فذكر الحديث عن أبيه مع إقحام واسطة إرسالاً من غير إسناد. ويؤيد ذلك أنه لم تأت رواية غير هذه تنسب إلى ابن عباس أنه سال مثل كعب، فالأرجح في النظر أنه مفتعل عليه لا محالة.

واستند جولد تسيهر ـ في مراجعة ابن عباس لأهل الكتاب ـ أيضاً إلى ما رواه الطبري بإسناده إلى أبي جهضم موسى بن سالم مولى ابن عباس، قال: كتب ابن عباس إلى أبي جلد (غيلان بن فروة الأزدي، كان قرأ الكتب، وكان يختم القرآن كل سبعة أيام ويختم التوراة كل ثمانية أيام) يسأله عن ((البرق)) في قوله تعالى: (هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً) فقال: البرق: الماء.

لكن في طبقات ابن سعد أن أبا الجلد الجوني ـ حي من الأزد ـ اسمه جيلان بن فروة، كان يقرأ الكتب. وزعمت ابنته ميمونة: أن أباها كان يقرأ القرآن في كل سبعة أيام، ويختم التوراة في ستة، يقرأها نظراً، فإذا كان يوم يختمها حُشد لذلك ناس.

لا شك أنها مغالاة من ابنته. يقول جولد تسيهر: ولا يتضح حقاً من هذا الخبر الغامض، الذي زادته مغالاةُ ابنته عموضاً، أي نسخة من التوراة كان يستخدمها في دراسته.

لأن التوراة المعهودة اليوم وهي تشتمل على (39) كتاباً تكون في حجم كبير، ثم هي قصة حياة إسرائيل طول عشرين قرناً، وفيها تاريخ حياة أنبياء بني إسرائيل وملوكهم ورحلاتهم وحروبهم طول التاريخ، وهي بكتب التاريخ أشبه منها بكتب الوحي. فهل كان يقرأ ذلك كله في ستة أيام؟ وما هي الفائدة في ذلك التكرار؟!

على أن راوي الخبر ـ وهو موسى بن سالم أبو جهضم ـ لم يلق ابن عباس ولا أدركه، لأنه مولى آل العباس، وليس مولىً لابن عباس. ففي نسخة الطبري المطبوعة خطأ قطعاً. قال ابن حجر: موسى بن سالم أبو جهضم مولى آل العباس، أرسل عن ابن عباس. وهو من رواة الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله عنه.

وأخيراً، فإن الموارد التي ذكروا مراجعة ابن عباس فيها لأهل الكتاب لا تعدو معاني لغوية بحتة، لا تمس قضايا سالفة عن أمم خلت كما زعموا، ولا سيما السؤال عن ((البرق))، وهو لفظ عربي خالص، لا موجب للرجوع فيه إلى رجال أجانب عن اللغة. كيف يا ترى يرجع مثل ابن عباس ـ وهو عربي صميم وعارف بمواضع لغته أكثر من غيره ـ إلى اليهود الأجانب؟! وهل يخفى على مثله ما للفظ البرق مفهوم؟ ثم كيف اقتنع بتفسيره بالماء؟ اللهم إن هذا إلا اختلاق!

الأمر الذي يقضي بالعجب، كيف يحكم هذا العلامة المستشرق حكمه البات، بأن كثيراً ما ذُكر أنه كان يرجع ـ كتابةً ـ في تفسير معاني الألفاظ إلى من يُدعى أبا الجلد؟! ويجعل مستنده هذه المراجعة المفتعلة قطعاً، إذ كيف يُعقل أن يراجع، مثله في مثل هذه المعاني؟!

وأسخف من الجميع تبرير ما نسب إلى ابن عباس من أقاصيص أسطورية جاءت عنه، بأنه من جراء رجوعه إلى أهل الكتاب في هكذا أمور بعيدة عن صميم الدين. قال الأستاذ أمين: وهذا يعلل ما في تفسيره من إسرائيليات. قال ذلك بعد قوله: وكان ابن عباس وأبو هريرة أكبر مَن نشر علم كعب الأحبار.

وقال الدكتور مصطفى الصاوي: وكثيراً ما ترد عن ابن عباس روايات في بدء الخليقة وقصص القرآن، مما لا يمكن أن يكون قد رجع فيها إلا إلى أهل الكتاب، حيث يرد هذا القصص مفصلاً، مثال هذا تفسيره للآية: (قالوا أتجعل فيها مَن يفسد فيها ويسفك الدماء) قال: لكنه حين يرجع إليهم مستفسراً، فإنما يرجع رجع العالم الذي يعير سمعه لما يقال، ثم يعمل فكره وعقله فيما يسمع، ثم ينخله مُبعداً عنه الزيف.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير