وبذا يمكننا القول بأنّ نظرية لوكسنبرج التي هلّل لها الغرب ليست جديدة. وهي في أحسن أحوالها تطبيق عملي لأراء مينجانا. ولا ريب أنّ مينجانا أكثر تأهيلاً من غيره للبحث في تأثير السريانية على لغة القرآن، ربما لأنه تعلّم السريانية في صباه في الموصل على أيدي الرهبان، وأنشغل بها طيلة عمره.
ومشكلة الاستشراق في العقود الأخيرة الاعتماد على القواميس الموضوعة في اللغات السامية كالآرامية، والسريانية، والأكادية، مع دراسة قصيرة قد لا تتجاوز بضعة أسابيع في نحو تلك اللغات فيصبح بذلك الدارس عالماً في اللغات السامية، أو لمجرد قراءة سريعة في كتب مختصرة لتعليم النحو السرياني ككتاب نولدكه (مختصرالنحو السرياني)، أو كتاب (فقه اللغات السامية) لكارل بروكلمان. وهذا تدليس حقيقي، وتجنٍّ على المعرفة. وقد قُيّض لنا أن نلتقي ببعض هؤلاء ممن يزعمون أنهم علماء باللغات السامية وهو لا يفرّق في العربية بين الشِّعر والشَّعرِ، ويزعم أنه يريد أن يصحح أخطاء النحاة واللغويين.
وهذا يصدق على المدعو لوكسنبرج، إذ أن نظريته لا تتعدى الألفاظ، ولهذا نراه يجري مقارنات لفظية بين المفردات العربية والسريانية أو الآرامية دون أن يكلّف نفسه عناء المقارنة بين نحو تلك اللغات. وهذا الأمر يبطل كلّ نظريته في الأصول السريانية للألفاظ القرآنية.
فمنهج لوكسنبرج في التعامل مع الألفاظ القرآنية التي يراها غامضة هو أن يعمد إلى إعادة إعجام الرسم المهمل بإعادة وضع النقط على اللفظ بجعل الخاء جيماً والراء زاياً والباء تاءً وهكذا حتى يقع على لفظ سرياني ملائم ينضبط به المعنى القرآني على حدّ زعمه. ولكن فاته شيءٌ مهمّ لم يتفطّن إليه وهو أنّ إعادة إعجام الألفاظ يترتب عليه أحياناً تغيير في الموقع الإعرابي وهذا يهدم البنية النحوية للجملة فلا يبقى أيّ معنى.
أثر ألفونس مينجانا على كريستوف لوكسنبورغ:
كتب مينجانا في سنة 1927 دراسة نُشِرت بمجلة مكتبة جون ريلاندز بمانشستر بعنوان (التأثير السرياني على أسلوب القرآن) Syriac Influence on the Style of the Kuran ، يقول في مطلعها:
” لا شكّ أنّ الوقت حان لإخضاع نصَّ القرآن لنفس النقد الذي تعرّض له الكتاب المقدّس اليهودي العبري والآرامي، والكتب المسيحية اليونانية .. وإني لمقتنعٌ بأنّ معالجةً شاملةً لنصّ القرآن بعيداً عن الشّراح المسلمين ستؤتي ثماراً وفيرةً من المعلومات القيّمة. ومن الضروريّ أن يتسلّح الباحثُ بمعرفة كافية بالسريانية، والعبرية، والحبشية. والسريانية في نظري أكثر نفعاً من العبرية والحبشية لتأثيرها الواضح على القرآن. “.
وشرع مينجانا في بيان مواضع تأثير السريانية على أسلوب القرآن، وجعلها في ستة وجوه: أسماء الأعلام، والمصطلحات الدينية، والكلمات العامة،والإملاء، وبناء الجمل، والإحالات التاريخية الأجنبية.
والقولُ بوجود ألفاظ قرآنية من لغاتٍ غير عربية مسألة لم ينفها أكثر المسلمين، والنافون منهم ذهبوا إلى أنها بدخولها إلى اللسان العربي تعرّبت. يقول السيوطي في كتابه الإتقان (1: 137) في معرض الجمع بين المثبتين والنافين:
” والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعاً، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، ولكنها وقعت للعرب فعرّبتها بألسنتها وحوّلتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربيّة، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب. فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال إنها أعجمية فصادق، ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجوزي وآخرون. “.
ولذلك فإنّ فكرة ردّ بعض الألفاظ القرآنية إلى السريانية بتحوير في بنيتها بشكل يعجم المهمل ويهمل المعجم يعدّ محاولة متطرفة للتفسير.
وليس هذا المكان الضيّق ملائماً لبسط القولِ في هذا الموضوع.
ومما جاء نتيجةً لهذا المنهج في كتاب لوكسنبرغ أن لفظة (قسورة) سريانية وليس معناها (الأسد) كما فهم المفسرون المسلمون، وأصلها في السريانية (قوصرا) كما هي في الآرامية (قوسره، و قوصره) والرسم القرآني قسوره أصح سريانياً ويلفظ (قاسورا) بإمالة الواو، ومعناها (الحمار الهرم الذي لا يقوى على حمل شيء)، وهذا المعنى مضحك بلا ريب إذ لا معنى لفرار الحمر المستنفرة من حمار عجوز.
¥