تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأهم عنصر ولدته العِلمانية - بالكسر – هو انعدام الانبهار بالطبيعة، وتجريد الطبيعة من العناصر والإحالات الزائدة، والمقصود بالعناصر والإحالات الزائدة العناية الإلهية، أو الآثار الإلهية في الكون، أو الماورائيات والغيبيات التي يمكن أن تدل عليها الطبيعة، وبالتالي انفتح المجال أمام الإنسان للتصرف في الطبيعة بحرية، واستخدامها وفق حاجاته وغاياته.

إن هذا التجريد العلماني للطبيعة من مغزاها الروحي، والحط من قيمتها بحيث لا تتجاوز مجرد كونها شيئاً من الأشياء خالياً من أي معنى علوي قدسي قد كان هو العامل الأساسي الذي انطلقت منه عملية العلمنة في الغرب.

وهكذا ترسخت الدهرية والدنيوية – العَلمانية – بالفتح - في ضمير الإنسان وتطلعاته نتيجة للعِلمانية - بالكسر - وأصبح همه أن يتصرف في العالم حسبما يريد، ويتمتع بدنياه كما يحب ودون أية قيود.

ولذلك فإن أقرب كلمة تصلح أن تكون مقابلاً لمصطلح العَلمانية – بالفتح - كما يقترح د. سيد محمد نقيب العطاس هي ما أشار إليه القرآن الكريم دائماً بعبارة " الحياة الدنيا " فلفظ دنيا المشتق من " دنا " يعني كون الشيء قد جُعل قريباً، وعلى ذلك فالعلم الطبيعي قد جعل العالم قريباً من الإنسان، وتحت سيطرته وخاضعاً لوعيه، وخبرته العقلية والحسية، وبما أن العالم قد أصبح كذلك فإنه من المؤكد سيصرفه عن مصيره الأبدي الذي يتجاوز هذه الحياة الدنيا إلى الآخرة.

وبما أن الآخرة تأتي في النهاية فإنها تبدو للإنسان العجول بعيدة، وهذا الشعور من شأنه أن يزيد في الإلهاء الذي يسببه ما هو قريب ومغري، ولذلك نجد هذه الحياة الدنيا، وهذا العالم هما محور المنظور العلماني ومَحَطُّ اهتمامه.

ونختم هذه الفقرة بالقول:

إن العِلمانية – بالكسر - مشتقة من العِلم وتدعو إلى الاحتكام إلى العلم، وهي ظاهرة حديثة وظفتها العَلمانية – بالفتح - توظيفاً خاطئاً وخطيراً على البشرية والإنسانية جمعاء.

وكما يبدو فنحن كمسلمين لسنا ضد العِلمانية – بالكسر - لأن ديننا وقرآننا يدعوانا إلى الاحتكام لمنطق العلم " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا " ويمجد العلماء " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألباب " ولكن الخلاف بيننا وبين العِلمانيين في تحديد مفهوم العلم، فالعلم عند الغربيين الطبيعيين لا يتناول إلا المحسوسات والمشاهدات، فهو العلم الطبيعي والرياضي فقط ولا صلة له بالميتافيزيقا أو بالأسئلة الكبرى المتعلقة بمصير الإنسان، وإن العالِم بنظرهم ما إن يسأل نفسه هذه الأسئلة ويحاول الإجابة عنها حتى يتحول عن سلوكه كعالم ويتخلى عن وظيفته العلمية، أما عندنا فالعلم يشمل كل ما يتصل بالكون والإنسان والحياة.

فنحن إذن على المستوى العملي على طرف نقيض مع العِلمانية – بالكسر-لأن هذه الأخيرة تحصر العلم في المحسوس في الدنيوي وتقوم على عقلانية مادية وضعية اجتماعية وتطرح مفهوماً جديداً للعلم يحيد التفكير الميتافيزيقي عن ساحته. "" فالعِلماني – بالكسر- هو من يتخذ من المعرفة العملية كما هي ممثلة في العلوم الطبيعية بخاصة نموذجاً لكل أنواع المعرفة، إنه يتبنى وجهة النظر الوضعية، مما يعني عدم اعترافه بإمكان المعرفة الخلقية أو الدينية أو الميتافيزيقية، لأن القضايا المزعومة لأي منها لا يمكن إخضاعها - حتى من حيث المبدأ – لمعايير العلم ""،فالفهم العلمي العِلماني – إذن - يتنافى مع الإيمان بالوحي الإلهي، وهكذا تعود العِلمانية فتنقلب إلى عَلمانية.

والخلاصة:

أن لفظتي عَلمانية - بالفتح – وعِلمانية – بالكسر - تصلحان تعبيراً عن الظاهرة المادية التي تستولي اليوم على مجتمعاتنا الإسلامية، وذلك لأن الكلمتين متكاملتان متفاعلتان من حيث المفهوم، فالعَلمانية هي تكريس للدنيوية، والعِلمانية أساس هذا التكريس لأن العلم بمفهومها هو العلم المادي والتجريبي والطبيعي – أي الدنيوي فقط – ولا تعترف بعلوم غيبية ميتافيزيقية أخرى. فالعَلمانية وإن لم ترتبط بالعلم من حيث الاشتقاق ولكنها لا تنفك عنه إذ هي ارتبطت تاريخياً بتعلم العلوم العقلية والطبيعية والتجريبية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير