تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الواقع - كما يقرر الدكتور القرضاوي - أن العلمانية لا يمكن أن تكون محايدة من الدين، لأن عزل الدين عن حياة المجتمع أو تفريغ حياته من الدين ليس موقفاً حيادياً، إنه موقف ضد الدين، إنه يقوم على اتهام الدين بأنه ضرر بالحياة وخطر عليها، فيجب إبعاده عن توجيه الحياة والتأثير فيها، ويجب أن تُبنى الحياة في تشريعها وثقافتها على غير الدين، وهذا الموقف لا يمكن أن يُعتَبر حيادياً، لأنه تجريم للدين وإدانة له.

كما أن الدين يطرح نفسه على أنه منهج حياتي شامل كامل، والحد من سلطانه يعني إعلان الحرب عليه، وبالذات الإسلام فهو رؤية شاملة وكاملة للكون والحياة والإنسان، تغطي عبر آلياتها الاجتهادية كل مراحل التطور البشري والاجتماعي والتاريخي " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا "، والدين المسيحي مع أنه لا يحتوي على تشريع أو تنظيم اجتماعي وإنما يحيل إلى التوراة أو العهد القديم، ومع أن العلمانية حاربته طوال القرون الخمسة الماضية حتى انزوى إلى الحياة الشخصية على مستوى أفراد قليلين لا يشكلون نسبة كبيرة في الغرب، بدأ يستعيد وجوده في الحياة الغربية، وإن كانت هذه الاستعادة ذات أهداف فكرانية وسياسية، ليكون سلاحاً روحياً في مواجهة الإسلام الذي يلقى رواجاً واسعاً في الغرب هذه الأيام، ولذلك نجد النشاط المسيحي أغلبه نشاط سياسي تبشيري تدعمه النظم السياسية الغربية التي تعتبر نفسها في حالة مواجهة مع الإسلام " الخطر الأخضر ".

ومع أن الدين المسيحي فقد ركائزه المقدسة، وانهارت مرجعيته تحت سياط البحث العلمي، والتاريخي - كما أشرنا في التمهيد - ولم يعد يملك القدرة على الإقناع أو اكتساب ثقة المؤمنين به، مع ذلك فإن الغرب اضطر أن يعدِّل كثيراً في المسيحية حتى كادت أن تتماهى مع الإلحاد، وذلك من أجل أن يرضي حاجته إلى التدين، أو يرضي ضميره المعذب لاغتياله المسيحية، ولذلك فقد "" تضاءلت الفروق الثقافية بين المؤمن والكافر، وانطمست الحدود بين الإيمان والكفر وأصبحت المسيحية أكثر مرونة والإلحاد أكثر سلبية، والإنجليزي الكافر ذو المنزلة الاجتماعية مهما تكن هذه المنزلة متواضعة يجري على سَنن المسيحية غالباً في مناسبات الولادة والموت والزواج ""، ومن هنا فإن إليوت يعتبر دين مجتمع ما هو ثقافته أيضاً، والاحتفاظ به احتفاظ بثقافة الأمة "" إن الثقافة والدين مظهران لشيءٍ واحد "".

ومن الخطأ الشائع القول: بأن "" الثقافة يمكن حفظها وبسطها وتنميتها بغير دين "" و "" حين ندافع عن ديننا فلا بد لنا في معظم الأمر من أن نكون مدافعين عن ثقافتنا في الوقت نفسه والعكس بالعكس "" وإن "" القوة الرئيسة في خلق ثقافة مشتركة بين شعوبٍ لكلٍّ منها ثقافته المتميزة هي الدين "" ولذلك "" إذا ذهبت المسيحية فستذهب كل ثقافتنا "". ومن هنا فإن الدين في الغرب يتجلى في مظاهر حياتية كثيرة كالقَسَم وتدريس المناهج الدينية، وأعياد الميلاد، وقوانين العقوبات. وهكذا يتبين لنا أن الغرب يريد العودة إلى الدين لأهداف دنيوية محضة، أهمها استخدامه كسلاح وثقافة " فكرانية " في مواجهة الشمولية الإسلامية. ولكن الدين الذي يريده الغرب ليس هو الدين العلماني علمانية ثابتة، وإنما هو الدين الذي يقبل الخضوع للعلمنة المستمرة دون توقف، وعلى هذا النحو يفرقون بين العلَمانية والعلمنة، فكيف ذلك؟.


سؤال:
في هذه الدوامة من المصطلحات، هل هناك فرق بين العَلمانية والعلمنة؟

العلمنة لم تكن في الأصل تتضمن حكماً تقييمياً، فقد كانت تعني في شرع الكنيسة الرومانية " رجوع " رجل دين أو قس إلى العالم، كما كانت تعني إبعاد مقاطعة أو ملكية ما عن رقابة السلطات الكنسية، ولم تصبح العلمانية مفهوماً فكرانياً مثقلاً بالمعاني مثيراً للجدل إلا حديثاً، وبالتحديد منذ الحرب العالمية الأخيرة حيث أصبحت تعني حسب موقع كل طرف إما التحرر من قيود الدين وسلطة رجاله، وإما انحسار النصرانية والرجوع إلى الوثنية.
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير