تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويبدو أن التعريف الذي يقترحه " بيترجي " أكثر تعريفات العلمنة المتعددة دقة، فالعلمنة كما ضبطها هي "" السيرورة التي بها تخرج قطاعات تابعة للمجتمع والثقافة عن سلطة المؤسسات والرموز الدينية "". وسنلاحظ - فيما بعد - أن كلمة السيرورة هي الحد الفاصل بين العَلمانية والعلمنة، إذ إن اتجاه العلمنة الجارف جعل المسيحية تحاول أن تتنازل كثيراً عن معتقداتها التي تبنتها لبضعة قرون لتتماشى مع التيار الجديد، فكانت البروتستانية أول بوادر العلمنة في المسيحية، ثم انخرط اللاهوتيون المسيحيون بدون وعي في علمنة المسيحية، وبدؤوا يطرحون صِيَغاً جديدة للمسيحية لم تكن من قبل حتى قال قائلهم: "" إننا نصير مسيحيين باستمرار"" أي أن كل ما يُطرح من نظريات علمانية جديدة نتبناه ونعتبره من المسيحية، ومن هنا قال باسكال:"" إننا بدلاً من أن ندخل العالم في المسيحية، نريد أن ندخل المسيحية في العالم"".

والواقع أن استجابة المسيحية للعلمنة كانت سريعة، وانخراطها في سيرورتها لم يكن شاقاً، والسبب هو أن المسيحية فقدت ركائزها التي ترتكز عليها منذ القرون الأولى بجهود بولس، ثم قسطنطين والمجامع المسيحية، وبالتالي بدأت تبحث عن أسس تستند إليها في الأفكار الإغريقية والهلينية، وكان بولس قد أنجز هذه المهمة بنجاح.

وهكذا فإن أول غاية للعلمنة هي التحرر من المسيحية، لأن العلمنة في أساسها تعني أن هناك "" مساراً تاريخياً لا راد له تقريباً هو الذي يتحرر بمقتضاه المجتمع والثقافة من الخضوع لوصاية الدين والأنساق الميتافيزيقية المغلقة "". فالعلمنة إذن: "" تطور تحرري وثمرتها النهائية هي: النسبية التاريخية "" أو هي: "" عملية تطورية لوعي الإنسان من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج "" والتاريخ بالنسبة للعلمانيين عبارة عن سيرورة لتحقق العلمنة.


الخلاصة:

العلمنة تعني مساراً لا نهاية له ولا حدود، تخضع فيه القيم والرؤى الكلية للوجود للمراجعة الدائمة حسبما يقتضيه التغير في المسيرة التطورية للتاريخ، بينما تعكس العلمانية - شأنها شأن الدين مثلاً - رؤية مغلقة، ومجموعة من القيم المطلقة المتوافقة مع غاية نهائية للتاريخ تنطوي على أهمية كبرى للإنسان، وهذا يعني أن العلمانية بالنسبة للغربيين تمثل منظومة فكرانية أي ثابتة وجامدة. "" العلمنة لا ينبغي لها هي الأخرى أن تصبح عقيدة إيديولوجية تضبط الأمور، وتحد من حرية التفكير كما فعلت الأديان سابقاً، والعلمانية النضالية laicisme ربما كانت قد مشت في هذا الاتجاه "" إن العلمانية مشروع لا يكتمل، وأفق ينبغي افتتاحه باستمرار، لكي لا تتحول إلى معتقد مغلق، وسلطة كهنوتية. ولذلك فالعلمانية تجربة لا تكتمل وسيرورة تحتاج على الدوام إلى إعادة تأسيس وبناء، وعلى داعية العلمانية أن يصنع علمانيته باستمرار ويعيد خلقها من جديد، ويعيد انتزاعها من تاريخها الخاص وإعادة إنتاجها بشكلٍ دائم.
إن هذا يعني أن العلمانية إذا تجسدت وتبلورت في قالب معين تتحول إلى منظومة فكرانية، وهو ما لا يريده الغرب، لأنهم يريدون بشكلٍ دائمٍ أن تظل العلمانية في حركة تعلمن دون توقف، ويجب على كل جيل أن يسهم في تحريك عملية العلمنة وإخراجها من جمودها وثباتها عن طريق إبداع برامج فلسفية مفتوحة تكرس النسبية المطلقة.
وهكذا ففي الوقت الذي تقوم فيه الفكرانية العلمانية بتحرير عقل الإنسان من النظر إلى الطبيعة نظرة رهبة وتقديس، وبنزع القداسة عن السياسة شأنها في ذلك شأن العلمنة بوصفها مساراً متصلاً، إلا أنها لا تمتهن القيم بالشكل المطلوب والمستمر، لأنها تقدم نسقاً قِيَمياً خاصاً بها، ولذلك تُعتَبر العَلمانية خطراً على العلمنة إذا لم تُراقَب بشكل دقيق وصارم حتى لا تتحول إلى إطار فكراني للدولة، أو إطار دوجماطيقي، لأن العلمنة تطور دائم وحركة دائمة فهي لا تعرف الثبات.
يمكننا أن نشبه هذه الحركة بالحركة التي تحصل داخل المادة حسب المفهوم الماركسي، وتُنتِج صراع الأضداد، وهذا الصراع يؤدي دائماً إلى أوضاع جديدة لا تستقر على حال. وبذلك نلاحظ كيف تظل العلمانية تستعيد جذورها التي أنتجتها.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير