تقدم الدكتور عبد الوهاب المسيري ببيان نوعين (قِسمَين) من العلمانية ليسا منفصلين، بل متكاملين في داخل دائرة واحدة، وهو يعرض قسمته هذه من أجل تجاوز إشكالية التأرجح في تعريفات الباحثين بين علمانية جزئية قاصرة على فصل الدين عن الدولة وعلمانية شاملة تعم كل شؤون الحياة.
- فالعلمانية الجزئية: عنده هي رؤية معرفية جزئية للواقع لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائية، ومن ثم لا تتسم بالشمول، فهي تذهب إلى فصل الدين عن الدولة، وربما بعض النشاطات الاجتماعية والاقتصادية الأخرى، ولكنها تسكت فيما يتعلق بجوانب الحياة المختلفة الأخلاقية والميتافيزيقية، ولا تتعرض للمطلقات والكليات الأخلاقية والإنسانية والدينية بالنفي أو الإثبات.
- أما العلمانية الشاملة: فهي رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي كلي ونهائي وتحاول بكل صراحة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات بكل مجالات الحياة، وهي رؤية عقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الواحدية المادية.
والعلمانية الشاملة بهذا المعنى ليست مجرد فصل الدين عن الدولة أو عن الحياة، وإنما فصل لكل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن العالم، وليس عن الحياة فقط أو الإنسان فقط، بمعنى أن العالَم يصبح شيئاً تافهاً لا قداسة له، والإنسان مادة خالية من أية قيمة روحية متجاوزة للمادة، أو متعالية عليها.
وعندما تُنزع القداسة عن العالم " الإنسان والكون " يسقط في قبضة الصيرورة المادية، ويظهر الإنسان الطبيعي في حدود احتياجاته المادية الاقتصادية أو الجسمانية، وحدوده هي حدود المادة، وأهدافه وغاياته وأخلاقه مادية، وسلوكه وتطلعاته وأشواقه مادية، إنها باختصار المادية المطلقة.
ويذهب الدكتور المسيري إلى أن العلمانية الشاملة تتفق مع الإمبريالية، وذلك لأنها حين تُكرّس المادية المطلقة، تترسخ في الواقع الإنساني النفعية المطلقة على كل المستويات الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، وعندما تصبح النفعية هي المعيار فإن سلطان القوة هو المرجعية والحكم، وسلطان التفوق الحضاري والمادي هو الأساس والمنطلق.
وبذلك بدلاً من النزعة الإنسانية تسود مركزية الإنسان الأبيض، والشعر الأشقر، والعيون الزرقاء في الكون، وبدلاً من الدفاع عن مصالح الجنس البشري تسيطر مصالح الجنس الأبيض، أو الجنس الأمريكي _ كما هو ملاحظ اليوم في مؤتمرات العولمة - وبدلاً من الاحتكام للمعايير والقيم الإنسانية، يصبح الاحتكام للمعايير الأمريكية أو الغربية تحت حراسة القوة النووية، والترسانات العسكرية.
والواقع أن هذه النفعية المطلقة، وأخلاق القوة ممتدة في التاريخ الغربي منذ أفلاطون وأرسطو اللذين رأيا ضرورة إبادة المعوَّقين والضعفاء، إلى مكيافللي الذي نهى الحاكم عن الرأفة والرحمة، ودعاه إلى القتل والإبادة لتوطيد سلطانه، إلى نيتشه الذي حَلُم بإبادة كل الضعفاء من البشر في إطار دعوته إلى " الإنسان الأعلى " إلى داروين " والبقاء للأقوى " إلى وليم جيمس، وجون ديوي، والفلاسفة الأمريكيين الذين رسخوا النفعية بشكل فلسفي يتواءم مع التطور التقني والتكنولوجي، ويستجيب لتطلعات العقل الغربي الذي اكتنز المادية منذ بضعة قرون.
ونزلت هذه الفلسفات إلى ساحة الواقع، وعانت منها البشرية الويلات المتلاحقة على يد نابليون بونابرت، وهتلر، وموسوليني، وستالين، وكان حصاد هذه العلمانية ملايين الضحايا من البشر في حربين عالميتين، ولا تزال المأساة متواصلة على يد الجزار الأمريكي، والتحالف الأوربي، والشيوعي في البوسنة والهرسك، والبانيا، والشيشان والعراق وأفغانستان والفلبين، والعلامات تشير إلى أن الدور قادم إلى سوريا، وإيران، رد الله كيدهم في نحورهم.
¥