أما الأحناف فقد كانوا تجسيداً لنزوع ما لاتجاه جديد في رؤية العالم في هذه الثقافة يبحث عن الوحدة والهوية وتحقيق الذات، وكان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ جزءاً من هذا الاتجاه، ومعبراً عن هذا النزوع، ومجسداً لكل هذه الأحلام والطموحات "" كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تجسدت في داخله أحلام الجماعة البشرية التي ينتمي إليها، إنسان لا يمثل ذاتاً مستقلة منفصلة عن حركة الواقع، بل إنسان تجسدت في داخله أشواق الواقع وأحلام المستقبل "". وهكذا قررت الماركسية أنه "" ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ""، و "" ليست حركة الفكر سوى انعكاس لحركة الواقع بعد أن انتقلت إلى دماغ الإنسان "".
وهكذا نجد المقولات الماركسية تشكل الخلفية الحقيقية للخطاب العلماني في قراءته للإسلام والقرآن فنلاحظ:
- جدلية البنى التحتية والفوقية في النصوص التالية: "" ولم يكن لهذا البحث أن يتجاوز الآفاق المعرفية للجماعة التاريخية، وهي آفاق تحكمها طبيعة البنى الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجماعة "". وذلك من منظور "" أن البنى التحتية، والفوقية تتفاعل في جدلية معقدة "".
- التفسير الاقتصادي للعلاقات الاجتماعية وذلك يتجلى في: اعتبار البحث عن دين
إبراهيم بحثاً عن الهوية الخاصة بالعرب، وحماية للذات من الحاجة الاقتصادية.
- نفي النفي وذلك حين يقرر الخطاب العلماني أنه "" ليس معنى القول إن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابن الواقع ونتاجه أنه نسخة كربونية من صورة العربي الجاهلي ... إن الواقع الذي ينتمي إليه محمد ليس بالضرورة هو الواقع المسيطر فالواقع ... يحتوي في داخله وفي بنائه الثقافي نمطين من القيم: النمط السائد المسيطر، ونمط القيم النقيض الذي يكون ضعيفاً خافت الصوت، لكنه يسعى لمناهضة نمط القيم السائد، وليس هذان النمطان من القيم إلا تعبيراً عن قوى اجتماعية وعن صراعات اقتصادية واجتماعية "".
هذا ما قرره الخطاب العلماني وهو ذاته الذي تقرره الماركسية حين تؤكد أن "" الظاهرة الجديدة التي تبرز في الطبيعة والمجتمع تمر هي أيضاً في طريقها الطبيعي، أي أنها مع مرور الزمن تهرم وتخلي المكان لظاهرات وقوى أكثر جدة منها، وإذا كانت في السابق قد نفت القديم لكونها جديدة، فإنها أصبحت الآن هي نفسها قديمة يجري نفيها من قبل ظاهرات أفتى منها وأجدى وأقوى، وهذا هو نفي النفي "".
وأيضاً: "" يوجد في كل مرحلة من مراحل التاريخ في جميع المجتمعات جنباً إلى جنب أفكاراً مختلفة متناقضة، لأنها انعكاس لتناقضات المجتمع الموضوعية، ومع ذلك فلا تتساوى هذه الأفكار في القيمة، منها ما يصبو إلى الإبقاء على المجتمع في أوضاعه القديمة، ومنها ما يسعى إلى تجديد هذا المجتمع "". وهو ذاته الذي يؤكده ماركس حين يقرر أننا "" لا نستطيع الحكم على عصر من العصور بناء على وعيه لنفسه، وحدها التناقضات بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج تؤلف الأسباب الموجبة أي القوى المقررة الحاسمة "".
وهكذا فالأفكار الجديدة - في الماركسية – تتولد كحل لتناقض موضوعي نشأ في المجتمع، لأن الدافع على كل تغيير هو التناقض، ونمو هذه التناقضات داخل مجتمع معين يثير مهمة حلها عند اشتدادها، فتظهر حينئذ الأفكار الجديدة كمحاولة لحل هذه التناقضات. ذلك لأن قانون نضال الأضداد هو الدافع لكل تغيير، وهو وراء كل حركة، وطبقاً لهذا القانون يتم تفسير كل التطورات التي تنشأ في الوجود والتي تطال الإنسان والعقل والمجتمع.
وبذلك يتم فهم التطور الذي حصل في المجتمع العربي طبقاً لقوانين المادية الجدلية، والمادية التاريخية بعيداً عن أي ميتافيزيقا تنظر إلى تاريخ المجتمعات على أنه عبارة عن خليط من العوارض التي لا سبب لها، فالمادية الجدلية هي وحدها التي تحمل جواباً علمياً على مشكلة الوعي كما أنها تتيح لنا فهم أصل الأفكار وعملها، وفهم النظريات الاجتماعية والآراء السياسية.
¥