تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

في التعريفات السابقة ثلاثة مصطلحات يمكن أن يستند إليها الخطاب العلماني في تأكيد ه على كسبية النبوة ومن ثم أنسنة الوحي.

الأول: الاستعداد النفسي لقبول وتلقي الوحي في تعريف ابن سينا يغيب الإرادة والاصطفاء الإلهيين " اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ " [الأنعام: 124]، " اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ " [الحج: 75]. لأن التعريف لم يشِر إلى الإعداد والاصطفاء الإلهي لأنبيائه.

الثاني: الإفاضة في تعريف الفارابي، بالإضافة إلى تغييب مُنزِّل الوحي سبحانه وتعالى لأن العقل الفعال في المنظور الفلسفي يقوم مقام جبريل عليه السلام وليس مقام الباري عز وجل، إذا افترضنا أن ذلك صحيحاً.

الثالث: العرفان في تعريف الشيخ محمد عبده يُقرِّب الوحي من الإيحاء النفسي والوحي الشعوري.

إن الخطاب العلماني استند على هذه العناصر وعلى كل ما يبرر له القول بكسبية النبوة من أجل أن يطرح نظرياته الإنسية في الوحي، فوجد في الموقف الفلسفي من النبوة ما يخدم أطروحاته، لأن النبوة في الرؤية الفلسفية تستند على المخيلة، بينما الفلسفة تستند على العقل وهو ما يلزم منه أن النبوة أدنى من الفلسفة، وهو ما رأيناه سابقاً عند كلٍ من سبينوزا وحسن حنفي.

وإذا كان عدد من المستشرقين قديماً وحديثاً قد اعتبر الوحي الذي يتنزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حالة مرضية بعضهم وصفها بالهستريا، وبعضهم وصفها بالصرع ثم بدأوا يتخلون عن ذلك منذ بداية القرن العشرين أمام الانتقادات التي وُجِّهت إليهم من داخل مدرستهم فإن بعض الباحثين العرب لا بد وأن يُعبروا عن استلابهم للآخر حتى وإن كانت أفكاره تعتبر من نفايات الفكر وحثالاته.

ومن هؤلاء هشام جعيط الذي يحلو له أن يردد مقولات فرويد وماكس فيبر حول النبوة فيعتبر الأنبياء مطبوعين بشيء من العصاب، ويعتبر حالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي يعيشها أثناء الوحي من النمط الاستلابي أو الاستحواذي أو الامتلاكي. وهي حالة مرضية تُصنَّف في الأمراض النفسية، ولكنه يرى أن حالة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ المرضية هذه حالة متحضرة إذا ما قورنت بأنبياء بني إسرائيل في نوباتهم العصبية، لأن ما كان يمس محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يجري - بنظر جعيط - في داخل الضمير فلا يُبرهَن عليه بأي اضطراب خارجي.

ثم يجعل - جعيط - الجنون أصلاً للوحي، والجنون في القرآن – بنظره - لا يعني الاختلاط العقلي وذهاب العقل والتمييز، وإنما يعني أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسكون من الجن!!.

والأنبياء اقتربوا من الجنون دون الوقوع فيه.

والوحي هجوم مباغت داخل الضمير.

والاستلاب والامتلاك والاستحواذ مفردات غريبة يصف بها حالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثناء تَنزُّل الوحي عليه. والهلس والهلوسة - بنظره - تفسير صحيح للوحي في الغرب نادى به ماكس فيبر وهذا التفسير سينتشر يوماً بين المسلمين فيسبب لهم تشنجاً.


سؤال:
يبدو التقارب بين نظرة كثير من المستشرقين إلى الوحي، ونظرة العلمانيين، ما رأيكم؟

نعم، وقد عبَّرتُ عن ذلك التقراب بالأنسنة والوحي الشعوري عند النسخة الاستشراقية والمُسخة العلمانية:
وسبب التعبير هنا بكلمة (مُسخة)؛ لكي تفيد أنها نسخة مشوهة للخطاب الاستشراقي
قال بعض المستشرقين إن الوحي المحمدي يمكن أن يكون شعوراً داخلياً، أو حالة نفسية وصلت إلى شعور محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من لا شعوره وإلى وعيه من لا وعيه. وهي فكرة تقوم على أن اللبيدو – الطاقة النفسية أو الحيوية – تولِّد الوحي من اللاشعور، وأن هذا اللا شعور قد يكون اللاشعور الجمعي الذي تتراكم فيه الرغبات أو الطاقات ثم تتجمع في لا شعور فرد من أفراد المجتمع يقوم بالتعبير عن مجتمعه ككل.
في الرؤية السابقة صحيح أن الوحي يبدأ من اللاشعور، ويفيض منه إلا أنه ينتقل إلى الشعور ويصبح واقعة شعورية، وهو ما يعبر عنه حسن حنفي بقوله: "" والوحي ينبت في الشعور "" "" ويحدث كله في الشعور "".
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير