تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأطلق سوسور على التصور الفكري للعلامة أو الإشارة اسم المدلول، وأطلق على الصورة السمعية لها اسم الدال، وهذان المفهومان متلازمان في كياننا النفسي، وهذا التلازم هو الذي يكوِّن الإشارة، وبذلك يكون الدال والمدلول مترابطان بالضرورة، فهما أشبه بصفحة من الورق يشكل المدلول وجهها الأمامي والدال وجهها الخلفي. ويتألف من الدال والمدلول ما يسمى بالدلالة التي يمكن تعريفها بأنها كيان يمكن أن يصير محسوساً ويشير بذاته بالنسبة لمجموع مستعمليه إلى أمر غائب.

إن جوهر اللسانيات هو مفهوم العلامة التي تُعتَبر تشكُّلاً لا يستمد قيمته ودلالته من ذاته، وإنما يستمدها من طبيعة العلاقات القائمة بينه وبين سائر العلامات الأخرى، فهو دليل لا يدل في بدئه بمقومات رمزية، وإنما يكتسب دلالته باتفاق عارض يضفي عليه قيمة الرمز دون أن يحوله إلى رمز. ولذلك وصفت العلاقة بين الدال والمدلول بأنها علاقة اعتباطية ولكن العلامة لا بد أن تنطوي على القصد، إذ يقتضي دستورها الدلالي توفر النية في إبلاغ ما تفيده، لأن العلامة إنما تدل بوضع هو اصطلاح متفق عليه تصريحاً أو مُسلَّم به ضمناً.

فالعرف أو الاصطلاح هو الذي يُقر للعلامة بدلالتها لأنه ما من دال إلا وكان يمكن استبداله بدال آخر. فالقواعد أو المواضعات المنظمة والضابطة لمعنى القضايا اللسانية ترجع في أصلها إلى طبيعة اجتماعية أو إلى عرف الجمهور، ولذلك فقيام كل فرد بإنشاء لسان خاص لنفسه يقضي على ضرورة التواصل بين الناس، لأن اللسان ليس ملكاً مخصوصاً، والقواعد اللسانية هي قواعد مشتركة بين الجمهور.

ولذلك حتى عندما تكون اللغة أو أي من الدلائل رمزاً، يجب أن تكون خاضعة لنظام بحيث يكون كل رمز يقابله معنى معين. ومن هنا فإن قواعد التواصل هي الاتفاقات التي يجب مراعاتها عند إرادة الوصول إلى الغرض والقصد والتواصل، وكل ذلك يكوِّن الخاصية اللسانية لتلك القواعد، وهي قضية بدهية لأننا نستخدم اللغة في إيصال أشياء مفرطة في التعقيد للآخرين. وهكذا فإن الاتفاق والتواطؤ والمواضعة الكائنة نتيجة الاستعمال هو طريق التواصل والقصدية، وهو الدال على نوايا المتكلمين.

إن ما نريد أن نصل إليه هنا هو أن اللسانيات علم من علوم اللغة يقوم على النحو ويستند إليه. ويمكن لهذا العلم أن يكون حيادياً ويقوم بدوره في خدمة البحث اللغوي، وإثراء عمليات الاستدلال، إلا أن الأمر لم يسر على هذا النحو من حيث الواقع، ولم يوفَّق هذا العلم لذلك والسبب – بنظري – في غاية الخطورة وهو أنه نشأ وارتبط بتاريخ فلسفي يموج بالشك والعدمية واللاأدرية، وانعكس عليه ذلك في الدراسات التطبيقية إن على مستوى الدراسات الغربية أو على مستوى الدراسات العربية، فالخلفيات الفكرانية هي التي توظف هذا العلم بطريقة تخدم توجهاتها وأغراضها.

لقد أشرنا آنفاً إلى مكانة العلامة في اللسانيات السوسيرية، ونضيف هنا أن هذه العلامات تتكون بشكل اعتباطي كدوال على الأفكار. وهذه الفكرة - اعتباطية الإشارة - تقوم على التقاليد التجريبية التي كان ينادي بها جون لوك كما يرى آرت بيرمان، فلقد كان لوك يرى كما يرى سوسير أن أي صوت محدد يمكن استخدامه حتى تصبح الكلمة بشكل اعتباطي علامة على فكرة معينة، وهذه الرابطة التجريبية هي التي تُكسب اللسانيات السوسيرية سنداً علمياً.

ولكن الارتباط الأكثر يبدو بين اللسانيات واشهر المذاهب الفلسفية التي مهدت لها مثل ظواهرية هيجل، ومادية وماركس، ووضعية أوجست كونت 1798 – 1857م، واجتماعية دوركايم 1858 – 1917م فلقد كرست هذه المذاهب مَنزَعَين هما الوعي بنواميس الصيرورة التاريخية، والثاني البحث عن القوانين المتحكمة في نظام الظواهر عبر حركة التاريخ، وهما منزعان استوعبتهما العلوم اللغوية على أكمل وجه "" فما أفاض فيه اللغويون من دراسات النحو المقارن كشفاً للقرابات اللغوية، وتصنيفاً للألسنة البشرية بين أسر وفصائل، وإحكاماً لشجرة الأنساب عن طريق التدرج السُلالي بحثاً عن الأصل الأوحد المصفى، إنما كان امتثالاً أميناً لتصور مبدئي يخص علاقة الإنسان بالوجود والكون والطبيعة والتاريخ، مما طفت فقاقيعه على سطح الوعي الفلسفي والاجتماعي"" مرتبطاً "" بظواهرية هيجل، ومادية ماركس، ووضعية كونت واجتماعية دوركايم، وتطورية داروين "".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير