تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فمنذ أن نزل القرآن إلى البشر أصبح نصاً تاريخياً لأنه تحول من كتاب تنزيل إلى كتاب تأويل فأصبح كتاباً بشرياً "" تاريخياً واجتماعياً وتراثياً "". إن كتاب التنزيل أطلق كتاب التأويل وأحدث معه نمطاً من القطيعة الإبستمولوجية النسبية وتحول "" النص منذ لحظة نزوله الأولى - أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي - تحول من كونه نصاً إلهياً، وصار فهماً " نصاً إنسانياً " لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل. إن فهم النبي للنص يمثل أولى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري "" لقد " تأنسن " النص ..

فالنص تدوين لروح العصر من خلال تجارب فردية وجماعية في مواقف معينة متعددة متباينة فهو عمل إنساني خالص لأنه يتحدث بلغة إنسانية نسبية، فالوحي على ذلك تأنسن عندما تحول عبر الرسول إلى كلمة إنسانية "" إن النصوص الدينية ... تأنست منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد، إنها محكومة بجدلية الثبات والتغير، فالنصوص ثابتة في المنطوق متغيرة في المفهوم "".

5 - النسبية:

ما دام القرآن تأنس فليس من حق أحد من البشر في منظور الخطاب العلماني أن يُقرر معنىً نهائياً للقرآن، لأنه عندئذ سيضع نفسه وصياً على الناس بوصاية إلهية.

حتى على مستوى العقائد لا يمكن لأحد من الناس أن يتكلم باسم الله لأنه سيجعل من نفسه نائباً عن الإله، ومن هنا فليس من حق أحد أن يفرض تصوراً معيناً لله، لأن الله بعيد عن المنال، بعيد عن التصور، ولا يمكن للبشر أن يصلوا إليه بشكل مباشر، وإنما يقدمون عنه تصورات مختلفة بحسب المجتمعات والعصور، ثم يتخيلون أن هذه الصورة هي الله ذاته، إن البشر لا يمكنهم أن يتوصلوا إلى الله إلا عن طريق وساطة بشرية هي اللغة، وهي لغة نسبية خاضعة للتأويل، ولذلك على المسلمين أن يُعيدوا النظر في العلاقة القديمة بين الإنسان والله، كما فعل نيتشة، عليهم أن يقوموا بتأويل التصور الموروث عن العصور الوسطى، لأن هذا التصور مرعب مخيف يشل حركة الإنسان.

وعندما أعلن نيتشة عن موت الله فهو يعني موت تصور معين لله، ذلك التصور كان ينبغي أن يموت لأنه تصور مظلم قمعي، ليحل محله تصور أكثر محبة ورحمة وغفراناً. ويمكن القول إن التصور الحديث يتجلى بالأمل، والخلود، والحرية والعدالة، هذا هو الله بالنسبة للتصور الحديث والعالم الحديث.

هذا هو التأويل العلماني لقضية الألوهية - أهم قضية يتحدث عنها القرآن الكريم - فليس من الضروري أن تظل كما فهمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته والتابعون، لأن تصورهم لله تصور قروسطي، قمعي، مظلم، عنيف، مرعب "" إذ لا شك أن أي مؤمن وأي شاك ستطيب نفسه إن تمَكَّن من تفسير الحكمة الإلهية في إهلاك شعب مقابل ناقة تلدها صخرة، كما لا جدال أن إيجاد تفسير معقول لإفناء قوم نوح في ضوء المعقول الآني الذي يفرض حرية الاعتقاد سيكون مريحاً لكثير من النفوس الحيرى والقلقة "".

ومن هنا فإن القرآن بنظر الخطاب العلماني ليس له ثوابت، بل هو مجموعة من المتغيرات يَقرأ كل عصر فيه نفسه، وهو قابل لكل ما يُراد منه، وهكذا وُظِّف في التاريخ، ولا توجد قراءات صحيحة وأخرى خاطئة، فالقراءات كلها صحيحة، والخطأ هو قراءة المعاصرين للقرآن بمنظور غير عصري. ولذلك فمن "" السخف الحقيقي الذي نأباه على أنفسنا أن نحدد أخيراً المعنى الحقيقي للقرآن ""، فليس للقرآن معنى محدد نهائي إنه "" يقول كل شيءٍ دون أن يقول شيئاً "". إنه مفتوح على جميع المعاني، إنه كون من العلامات والرموز، ويمكن أن يتسع حتى لتأويلات المخالفين للإسلام، ويتكيف مع كل الاتجاهات والأغراض، لأنه من حق غير المسلمين الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي أن يفسروا القرآن بما يوافق ثقافاتهم ومعتقداتهم، ولذلك جاء النص مجملاً عاماً كلياً لأنه رحمة للعالمين وهداية للناس،

ومن يتمسك بفهم خاص يعتبره هو الفهم الصحيح بإطلاق يخرج من مظلة الرحمة الإلهية، ذلك أن القرآن الكريم - بنظر الخطاب العلماني – "" لا ينُص على الحقيقة، لأن الخطاب الذي يكون مجرد نص على الحقيقة ينتهي بانتهاء الوقائع التي هي إجراءات للحقيقة ... النص لا يقول الحقيقة بل يفتح علاقة مع الحقيقة "".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير