فقال لهم: فكيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة، وهذا الفلك الدوار السيار يجري ويحدث هذه الحوادث من غير محدث، وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك؟ فرجعوا إلى أنفسهم بالملامة.
=====
الحوار بين الفخر الرازي وقسيس في خوارزم:
جاء في تفسير الفخر الرازي، أنه لقي نصرانياً في خوارزم، فجرى بينهما حوار طويل، جاء فيه:
قال النصراني: ما الدليل على نبوة محمد؟
فقلت له: كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى من الأنبياء عليهم السلام، نقل ألينا ظهور الخوارق على يد محمد ?، فإما رددنا التواتر أو قبلناه، لكن إن قلنا إن المعجزة لا تدل على الصدق، فحينئذٍ بطلت نبوة سائر الأنبياء عليهم السلام، وإن اعترفنا بصحة التواتر واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق ثم أنهما حاصلان في حق محمد ?، وجب الاعتراف قطعاً بنبوة محمد ? ضرورة، إذ عند الاستواء بدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول.
فقال النصراني: أنا لا أقول في عيسى أنه كان نبياً، بل أقول أنه كان إله.
فقلت له: الكلام في النبوة، لابد وأن يكون مسبوقاً بمعرفة الإله، وهذا الذي تقوله باطل، ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود، واجب الوجود لذاته يجب أن لا يكون جسماً متحيزاً ولا عرضاً، وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وُجدَ بعد أن كان معدوماً وقُتل بعد أن كان حياً-على قولكم - وكان طفلاً أولاً ثم مترعرعاً ثم صار شاباً وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ، وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديماً، والمحدث لا يكون غنياً، والممكن لا يكون واجباً، والمتغير لا يكون دائماً.
الوجه الثاني في أبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حياً على الخشبة، وقد مزقوا ضلعه، وأنه كان يحتال في الهرب منهم وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملة أظهر الجزع الشديد، فإن كان إلها أو كان الإله حالاً فيه، أو كان جزءاً من الإله حالاً فيه فلِمَ لم يدفعه عن نفسه؟
ولِمَ لم يهلكهم بالكلية؟
وأي حاجه به إلى إظهار الجزع منهم؟ والاحتيال في الفرار منهم؟ وبالله إنني لأتعجب جدا!! إن العاقل كيف به أن يقول هذا القول، ويعتقد صحته فتكاد تكون بديهية العقل شاهدة بفساده.
والوجه الثالث هو انه إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد أو أن يقال حل الإله بكليته فيه أو حل الإله بجزء منه فيه.
والأقسام الثلاثة باطلة:
أما الأول: فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم فحين قتله اليهود كان ذلك قولا بان اليهود قتلوا إله العالم فكيف يبقى العالم بعد ذلك من غير إله! ثم اشد الناس ذلا ودناءة اليهود؛ فالإله الذي تقتله إله في غاية العجز!
وأما الثاني: وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم،فهو أيضاً فاسد لأن الإله لم يكن جسماً ولا عرضاً امتنع حلوله في الجسم،وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله، وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحل وكان الإله محتاجاً إلى غيره وكل ذلك سخف.
وأما الثالث: وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله وهو جزء من أجزائه،فذلك أيضاً محال لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلهية فعند انفصاله عن الإله وجب أن لا يبقى الإله إلهاً وإن لم يكن معتبراً في تحقيق الإلهية لم يكن جزءاً من الإله؛فثبت فساد هذه الأقسام فكان قول النصارى باطل.
الوجه الرابع: في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى ? كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله سبحانه وتعالى ولو كان إلهاً لاستحال ذلك لأن الإله لا يعبد نفسه.
فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور دالة على فساد قولهم.
ثم قلت للنصراني: وما الذي دلك على كونه إله؟
فقال: الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى.
فقلت له: هل تسلم أن من عدم الدليل عدم المدلول أم لا؟ فإن لم تسلم لزمك من نفي العلم في الأزل نفي الصانع،وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فأقول: لِمَ جوزت حلول الإله في بدن عيسى? فكيف عرفت أن الإله ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد؟
¥