تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فقلت: "سأفعل إن شاء الله تعالى". فقال: إن الدين كله واحد، أعني دين اليهود و [دين] النصارى، لا اختلاف فيه كما يظن من لم يحصل عنده تحقيق. وذلك أن مَثل موسى وعيسى كرجلين زرع أحدهما زرعاً، وقام عليه حتى راع وزكا، ثم تركه، وهذا مَثل موسى ودين اليهود. ثم جاء عيسى بعد ذلك، فقام على ذلك الزرع حتى حصده ودرسه، وصنع منه طعاماً. فالطعام هو دين النصرانية، وأصل الزرع [هو] دين اليهودية، وهما شيء واحد، لأن الفرع مع أصله شيء واحد. وسيدنا المسيح عليه السلام لم يجئ بدين آخر، بل جاء متمِّماً للتوراة، ومصدِّقاً لها ولِما بين يديها من جميع كتب الأنبياء عليهم السلام. فأَحلَّ حلالها، وحرَّم حرامها، وآمن به من سبقت له السعادة من بني إسرائيل، وهم الحواريون. وكانوا سبعين رجلاً، أقربهم منزلة لديه اثنا عشر [رجلاً] منهم. وكفر به أحبار بني إسرائيل وأهل الرئاسة منهم، للشقاوة التي كتبها الله عليهم في سابق علمه. ومن فضل المسيح أن ولادته كانت معجزة، ثم تكلم في المهد، وأحيى الموتى، وأبرأ المرضى، حسبما يصف ذلك كتابكم. ثم كان من قصة صَلبه واقتحامه المشقات ما كان، وقد نطق كتابكم بصدق كتابنا الإنجيل. وأنتم متفقون على أنا أهل كتاب، ومن كان ذا كتاب فمن اللازم أن يكون ذا دين، فهذه قواعدنا ثابثة في النقل، معروفة عندكم.

وأما دينكم، فمن أين جاءكم؟ ومن شهد لكم بصحته [من الأمم] كما تشهدون أنتم بصحة التوراة والإنجيل؟، ونحن واليهود منكرون لكتابكم رأساً. فأتِني بدليل قاطع، على صحة نبُوة نبيكم، من كتاب نبي غيره، أو تفسير عالم من غير ملتكم، وأنا زعيم بتصديق كل ما جئتني به مما ذكرت [لك] من الدلائل القاطعة المستندة إلى كتب الأنبياء.

فجاوب الآن على قدر استطاعتك، واتساع باعك في ذلك، وجميع الحاضرين شهداء بيني وبينك، وهم الحاكمون علينا، بما يرونه صواباً من غير حيف ولا مراعاة جهة. فتكلم الآن بما أمكنك وأوجِز، فإنك تعلم ما ينوبني من الأشغال السلطانية التي قد استغرقت الوقت.

فلما أذن [لي] في الكلام، قلت: أقدم لك شيئاً بين يدي الجواب، لأن في نفسي منه شيئاً، وهو مما تكلمت به. أشهِدك أني قد عزلت حكامك الذين حكمت بيني وبينك، لأنهم في الحقيقة خصماء، والخصم لا يكون حكَماً على خصمه، ولا حاكم بيني وبينك إلا البرهان العقلي والدليل النقلي.

فأما ضرب مثالك للدين بموسى وعيسى عليهما السلام، وأنهما كرجلين زَرَعا زرْعاً، زرعه أحدهما وجنى ثمرته الآخر، فهذا مثال مردود في العقل، فاسد في القياس، إذ يلزم منه أن دين موسى غير تام، إذ لا ثمرة له، لأنك جعلت ثمرته موقوفة على بعثة المسيح، فهو تصريح بفساد دين موسى، إذ لا ثمرة له عندك. وما لا ثمرة له، فهو كالمعدوم، لأن المعدوم شرعاً، كالمعدوم حِساً.

ومن فساد هذا التمثيل أيضاً نسبتك العبث فيه إلى الله تعالى، كونه تعبَّد كليمه موسى وبني إسرائيل بدين لا ثمرة له، إذ جعلت ثمرته موقوفة على بعثة المسيح كما تقدم. فقد أبطلت دين موسى من حيث أثبته. ولو سلمت لك هذا القول تسليم جدل لأجبتك بأن الزرع الذي ذكرت، أضاعه فلاحون السوء، وجعلوه نصباً للآفات، إلى أن أباح رب الأرض أرضه خير زارع وأشرف فلاح. فقدروا قدره، وقاموا على حفظه حتى جنوا من ثمراته ما لم يزالوا هم وعقبهم شاكرين رب الأرض على ذلك. فأورثهم أرض شرار الفلاحين وجناتهم، وأحب البقاع إليهم، وهذا مثال أهل الإسلام، والحمد لله.

وأما قولك: إن الدين كله واحد، تعني دين اليهود ودينكم فشيء اشتد له عجبي، إذ مثلك يقول هذا القول، وأنت تعلم أن ما مِن أمَّتين من الأمم بينهما من التنافر والتضاد ما بين اليهود والنصارى، إذ اليهود [إلى] الآن، لا يعمرون أنديتهم إلا بالضحك منكم ومن دينكم، مع ما ينسبون إليكم من الجهل والسفه العظيم. ومن العجب أيضاً دعواكم اتباع التوراة، وفيها تحريم الشحم والميتة والدّم ولحم الخنزير [ولحم الجمل] وأنواع [من] الحيتان إلى غير ذلك من محرماتها، وأنتم قد أرسلتم على ذلك أدراسكم. وفيها تعظيم يوم السبت، وتحريم العمل فيه، فجعلتم عوضاً منه يوم الأحد.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير