وأخبرنا أيضاً عنهم أنه قد سخط عليهم وفي العذاب هم خالدون، وهل في الكفر من هو أسوأ حالاً ممن هذه حاله، والعياذ بالله؟ فتبين بما قلناه أن التوراة لم تنفع اليهود، كما لم ينفعكم الإنجيل. فكيف تستدل بصحة الكتب على صحة ما أنتم عليه، وهي حجة عليكم لا لكم؟ بل [أنتم] أسوأ حالاً ممن لم يبلغه كتاب، إذ لا حجة لكم عند الله بعد إطلاعكم على الحق وجحدكم له. على أنَّا لا ننكر حق من آمن من بني إسرائيل بنبي زمانه، ولم يقع في شتم نبي كقوم موسى، ومن آمن بداوود وسليمان وسائر أنبياء بني إسرائيل، فقد كان فيهم الصالحون والعُبّاد والزّهاد، بل إن الذي آمن منهم بنبيه، وحفظ شريعته على ما أمر به، ثم أظله زمان نبي آخر فآمن به له أجران.
هذا كله إلى زمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الذي نسخت شريعته جميع الشرائع، ووجب ببعثته على جميع الأمم الدخول في ملته. فمن سمع به من سائر الملل، فاستمسك بدينه، ولم يدخل في ملة هذا النبي الكريم، فهو من أصحاب النار، لأنه قد أقام على شيء ارتفع حكمه، ونسخ ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما طلبك الدليل على صحة ديننا، وصدق رسالة نبينا، فلعمري إنكم لتعلمون صحة ذلك كما تعلمون صحة وجودكم لو صحبكم التوفيق السابق في الأزل، ولكن "مَنْ يُضْلِل الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ".
فصل يذكر فيه [ما بشرت به] صحف الأنبياء ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأول ذلك في نص الإنجيل عن المسيح من رواية لوقش، يقول [فيه]: "إني ذاهب عنكم، وإنه سيأتي بعدي البارقليط المبارك، ولا ينطق إلا بالحق، ولا يقول شيئاً من نفسه، وإنه يتكلم بما يوحى إليه ويؤمر به، وأنا قد جئتكم بالأمثال، وهو يجيئكم بالشرح والبيان".
وفي فصل آخر منه يقول فيه في وصف محمد صلى الله عليه وسلم: "إنه ينقذ من الضلالة، ويهدي من الجهالة، ويفتح الأعين العور والآذان الصم، لا يصخب ولا يمزح في الأسواق، ولا يغلب ولا يتكلم إلا بالحق والحِكم". فيا ليت شعري! من هذا الرسول الذي بشر المسيح أنه يأتي بعده، وهذه أوصافه. أخبرني من هو، أمَا أن هذا النص الصريح لم يترك لكم متعلقاً.
وفي فصل من التوراة، حيث بشر الله خليله إبراهيم، أنه استجاب دعوته في ابنه إسماعيل، وأنه سيكون من ذريته محمد صلى الله عليه وسلم، إذ قال له: "قد أجبت دعوتك في إسماعيل، وسأبارك فيه، وأكثِّره وأنمِّيه جداً جداً، وسيضع فسطاطه في بلاد إخوته". وإخوة إسماعيل بنو إسرائيل، وبلادهم مصر والشام. ومعلوم أنه لم تكثر ذرية إسماعيل، ولا ظهرت البركة فيها إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي وضع فسطاطه في بلادهم، واكتسب العز والسلطان الأبدي، رهطه ذرية إسماعيل. ونقل الله النبوة والسلطان من ذرية إسحاق إلى ذرية إسماعيل، بهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. ولهذه الحكمة، أسكنه الله وأمه مكة لأن يورث فيها خير الخلق محمداً صلى الله عليه وسلم.
وفي فصل من التوراة أيضاً، يقول الله لموسى: "سيقوم نبي من إخوان بني إسرائيل، وهو نبي مثلك، أجعل فيه خطابي، ويتكلم بجميع ما أمر به". فصل وفي صحف أشعياء عليه السلام، يقول له: "هذا عبدي أمسك فيه مصطفاي وفخاري، أحببته لجلالتي. لا ينطق حتى يجعل في الأرض ديناً، ولشريعته جميع الأمم منتظرون".
فيا ليت شعري! من هذا النبي الذي بشر به أشعياء، اسمه المصطفى؟، أو لمن كانت الأمم تنتظر؟ أو لم يعلم بعد أشعياء نبياً غير محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي صحف دانيال، يقول: "رأيت بسحاب السماء ابن آدم طالعاً حتى وصل إلى الرب، وبين يديه تقرب"، ثم قال في نص بعد هذا: "ولمحمد تُعطى العزة والمملكة، وكثرة الأمم والشعوب والألسن كلها راجعة إليه. دينه ثابت لا يزال، ورئاسة أمته لا تحول". أما إن هذا تصريح بالإسراء، حيث قال: "طالعاً بسحاب السماء"، وإثبات لجميع أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي صحف أرمياء، يقول الله له فيها في وصف محمد عليه السلام: "تكون الجلالة منه، والاقتحام من صميم فؤاده، وأقرِّبه وأدنيه إلي، ومَن الذي يطيق التقرب إلي، يقول: هذا الرب جل وتعالى". ومن المقطوع به أن الجلالة والرفعة، والوصول إلى العرش لم يكن إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
فصل ومن كلام عزير حين تكلم على خاتمة التوراة يقول أن خاتم النبيئين وسيد المرسلين يبعث في آخر الزمان، ونص ذلك عن الله: "إني باعث رسولي، ينقي الطريق بين يدي، وفي غفلة يأتي إلى مكة السيد الذي أنتم له يا أنبياء طالبون، ورسول العهد الذي أنتم له محبون، ها هو ذا يأتي".
وفي صحف حبقوق، يقول الله له: "قم فانظر وأخبر بما ترى. فقال: إني أرى رجلين، أحدهما راكب على جمل، والآخر راكب على حمار. وبيد الراكب على الجمل قضيب يشير به على أصنام بابل فتسقط".
والاتفاق واقع منا ومنكم أن صاحب الجمل هو محمد صلى الله عليه وسلم، وصاحب الحمار عيسى عليه السلام. ومعلوم عند جميع الأمم أن أصنام بابل لم تسقط إلا على يد محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
فهل عندك مطعن في هذه النصوص، أو مدفع أو تجد عنها محيداً، إلا أن تأولوها بتأويلاتكم الهذبانية السخيفة، التي لا تقوم على ساق لبعدها وركاكتها.
فقال وقد التفت إلى جلسائه الأساقفة: "كيف رأيتم جوابه؟ ".
فقالوا له: "أدام الله عزك، ما أرانا إلا أردنا أن نُنَصِّرَهُ، فكاد يقودنا إلى دينه".
فضحك اللعين، وقال: "لعمري إنه لكذلك! ولقد أجاب فأطنب"، ثم التفت إلي وقال لي: "ما أنكرت شيئاً من جوابك، إذ هو جار على نسق السؤال، ولا بد من إجابتك عليه في مجلس غير هذا إن شاء الله، لأن هذا أوان ركوبي إلى الملك، والموعد بيني وبينك يوم الأحد الأقرب، لأني أتفرغ فيه عن الأشغال".
فيسر الله هروبي في أثناء هذه المدة، فكان آخر العهد به، فلله أتم الحمد، وأكمل الشكر على الخلاص من بلادهم الكافرية والامتنان ببلاد الإسلام، ولوجهه عميم الشكر كما هو أهله، لا إله إلا هو الرءوف الرحيم.
¥