والثاني " معقولية المسيحية " غلّب فيهما الجانب العقلي في المسيحية، ودعا إلى عقلنتها لكي تقبل ([212]).
كذلك كان ديفيد هيوم 1711 – 1776 م يتبنى النزعة الطبيعية التي نادى بها بيكون وهوبز ولكن مع تطعيم هذه النزعة بمقولات الشُّكاك الأوائل مثل بيرون وشيشرون وكان ينعت نفسه بـ " الشاك " وغرضه أن يعزل الدين أو ما يسميه " الخرافة المستقرة " عن أي سيطرة فعالة في الحياة الأخلاقية للفرد والإنسان الاجتماعي ([213]).
و لا محل في فلسفة هيوم للحديث عن وجود الله [عز وجل] أو النفس ([214])، فهو يرفض أية براهين عن ذلك ([215]) ويقول: "" لو وجد لأمكن البرهنة على وجوده "" ([216]) وعلل الاعتقاد بوجود الله عز وجل بالحاجة النفسية، فعواطفنا هي التي ترغمنا على ذلك، وإن كان التحليل الفلسفي يفتقر إلى البرهان ([217]) ولم يكن هذا رأيه في الميتافيزيقا فقط، بل إنه يرفض جميع الجواهر ([218]) وينكر الروح والمادة، ولا يُبقي إلا على المدرَكات الذاتية نفسها ([219])، ولا يعترف بأية حقائق ضرورية، والعلوم الطبيعية نسبية ترجع إلى تصديقات ذاتية يولدها تكرار التجربة ([220]).
3 – الدين الطبيعي:
لقد تبنى عدد من فلاسفة التنوير ما سمي بدين العقل أو الدين الطبيعي ([221]) وهي مسميات لفكرة قديمة، تقوم على الإيمان بالله عز وجل، ورفض النبوة والوحي والكنيسة ([222]).
وكانت ديانة العقل هذه متضَمّنةً في المذهب الديكارتي، وتقوم على الإقرار بوجود الله عز وجل، ذلك أن ديكارت وإن كان يصرح باعترافه بالمسيحية إلا أنه لم يهتم كثيراً بأسرارها ([223])، بل هناك من يعتبر أن إيمانه كان مداهنة لرجال الدين ومهادنة للكنيسة، ولأغراض السياسية ([224]).
وقال جون لوك 1632 – 1704م معبراً عن هذا المذهب:" لم تبق حاجة أو نفع للوحي، طالما أن الله [عز وجل] أعطانا وسائل طبيعية أكثر يقيناً لنتوصل بها إلى المعرفة " ([225]).
وكانت جمعية لندن للمراسلات تحتضن المذهب التأليهي، وتنشر كل ما يزري بالمسيحية وينصر التأليهيين، فبالإضافة إلى نشرها لكتاب " عصر العقل " لتوماس بين نشرت كتابين آخرين لا يقلان زراية بالدين المسيحي هما " نظام الطبيعة " لـ ميربودو، و " حطام الامبراطوريات " لـ فولني، كما نشرت أبحاث فولتير التي تسخر بالدين المسيحي، ونشرت كذلك من الكتب المعادية للمسيحية " جمال المذهب التأليهي " و " المعجم الأخلاقي " و " جوليان ضد المسيحية " و " الأفكار الطبيعية في مواجهة الأفكار الخارقة للطبيعة ". ومن الواضح هنا من خلال العناوين السابقة كيف كان الدين الطبيعي يكسب أنصاره بكثرة ([226]).
وفي ألمانيا كان لسنج 1729 – 1781م يقول: بأن الكتاب المقدس ليس ضرورياً للإيمان بالمسيحية، لأن هذه – أي المسيحية - أسبق في وجودها من قبول الكنيسة للعهد الجديد بصورته الراهنة، كما أن الدليل على صحة جوهر المسيحية يكمن في ملاءمتها لحاجات الطبيعة البشرية ومتطلباتها وليس في معجزاتها، وأن روح الدين لا تتأثر بأية أفكار مهما بلغت من جرأة وجسارة، وأعلن أنه لا يؤمن بسائر الأديان، وأن كل دين يمثل كلمة الحق الأخيرة، وأن أي هجوم عليه لا يضيره، وأن كل الأديان لها فضل على الإنسانية باشتراكها في تطوير حياتها الروحية، ولا يوجد دين يمتلك احتكار الحقيقة ([227]).
وفي أمريكا كان من أشهر التأليهيين بنيامين فرانكلين 1706 – 1790 أنكر ألوهية المسيح، وتقبل الأخلاق الدينية بطريقة نفعية براجماتية، وكان يسمي نفسه " التأليهي " واستحدث صلاة خاصة بمذهبه تخالف صلاة المسيحيين كان يتوجه بها إلى الله [عز وجل] كل يوم ([228]).
أما في فرنسا فقد كان دنيس ديدرو 1713 – 1784 م قد تأثر بالتأليهيين الإنجليز مثل شافتسبري وجون لوك وفرنسيس بيكون، ورفض الأخلاق النابعة من الدين المنزل، وآمن بالأخلاق النابعة من فيض القلب بعيداً عن المواضعات الاجتماعية ([229])، وكان مثله مثل فولتير يريد أن يرى آخر ملك مشنوقاً بأمعاء آخر قسيس ([230])، وأدلته على وجود الله عز وجل نفس أدلة المؤلهة الطبيعيين ([231])، وكان يقول "" أكاد أجن من كوني مقتنعاً بفلسفة شيطانية لا يملك عقلي إلا تصديقها، ولا يملك قلبي إلا رفضها "" ([232]).
¥