وفي كتابه " إميل " يدافع روسو عن مبادئ الدين الطبيعي، ويرفض الأخلاق القائمة على الوحي، وقد أغضب بذلك الكاثوليك والبروتستانت معاً عندما قال: "" لست أخمن بوجود قواعد للسلوك، ولكنني أجد هذه القواعد منحوتة في أعماق قلبي، وقد سطرتها الطبيعة بحروف لا تمحى "" ([233])، وهذا يعني أن اعتقاده في الله عز وجل قائم على أساس شخصي ذاتي لا يمد أي شخص آخر بأسس لهذا الاعتقاد ([234]).
وأما فولتير فقد اعتُبر الممثل الرئيس لدين العقل في باريس وفي أوربا، وهو وإن لم يعاصر الثورة الفرنسية إلا أن كتاباته الأدبية المؤثرة دفعت سكان باريس في عهد الثورة إلى تمجيد العقل إلى درجة دفعتهم إلى عبادة " إلهة العقل " المجسمة في شكل امرأة حسناء من نساء باريس ([235]).
ويرى أن المؤمن الوحيد الذي يجب أن نعترف به هو المؤمن بالله [عز وجل]، والمنكر للوحي، والإنجيل الوحيد الذي يجب أن نقرأه هو كتاب الطبيعة الكبير الذي كتبته يد الله [عز وجل]، وختمته بخاتمها، والديانة الوحيدة التي يجب التبشير بها هي عبادة الله والسعي للخير ([236])، ويريد أن يرى آخر ملك مشنوقاً بأمعاء آخر قسيس وهو ما ردده بعده ديدرو كما أشرنا آنفاً ([237]). ولم يتردد في إنكاره للأديان والوحي والتنزيل والمعجزات وعبر عن ذلك في كتابه " مبحث في الميتافيزيقا " ومقاله الذي نشره عام 1742م بعنوان " المذهب التأليهي " ([238]).
2 – طوفان العلمانية / العلمانية الشاملة /:
كان من منجزات النهضة والتنوير هو " العلمانية الشاملة " أو " الترشيد " بحسب مصطلح ماكس فيبر وعلى أساس ذلك سادت النظرة المادية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية التي ترى أن مركز العالم كامن فيه غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم بأسره مكون من مادة واحدة خالية من القداسة ومجردة من الأسرار، ويعني ذلك أن العالم المنظور يحوي بداخله ما يكفي لتفسيره والتعامل معه، وعقل الإنسان قادر على استخلاص المنظومة المعرفية والأخلاقية اللازمة لإدارة حياته وكونه ([239]).
وتحاول هذه المنظومة بكل صرامة أن تحدد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات بكل مجالات الحياة فإما أن تنكرها في أسوأ الأحوال أو تهمشها في أحسنه، وكل ألأمور تؤول في النهاية إلى التاريخية الزمنية النسبية [240].
3 – النقد العالي:
دفعت الصدمة العلمانية الشاملة العقل الأوربي إلى اقتحام كل المقدسات، وإعادة النظر في كل المعطيات الدينية السائدة وانعكس ذلك بشكل خاص على جانبين في الديانة المسيحية:
- الكتاب المقدس.
- الوظيفة الإنسانية للدين.
أما فيما يتعلق بالكتاب المقدس فقد كانت الدراسات النقدية تزيد يوماً بعد يوم في انهيار قداسة الكتاب، فالرشديون كانوا قد طعنوا في ذلك، ولكن ظلت طعناتهم على مستويات فردية لم تشكل تياراً جارفاً، ثم أظهر لوثر وزفنجلي وكالفن بأن تشكيل الكتابات المقدسة "العهد القديم" من عمل ابراهام بن عزرا، ونيقوليوس مليرا، وإليا هولوتيا ([241]). ثم أعرب المثقفون اليسوعيون عن رأيهم بأن العهد القديم، قد أُقحمت فيه بعض الإضافات المتأخرة ووجدوا دعماً لهم في أقوال أندرياس مزيوس أحد المثقفين الهولنديين الذي تمكن من تحديد الزمن الذي رتبت فيه التوراة ([242]).
وقبل ذلك تشكك الحبر الغرناطي إبراهيم بن عزرا، وابن جرشون في صحة نسبة الأسفار الخمسة إلى موسى عليه السلام، وفي صحة نسبة سفر يشوع إليه ([243])، ثم جاء باروخ سبينوزا 1632 – 1677م فبنى على تشكيكات وألغاز بن عزرا بناءً نقدياً هائلاً، وكشف أن ابن عزرا تيقن أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة، ولكنه لم يجرؤ على الجهر بهذه الحقيقة خوفاً من بطش الفريسيين، ولكنه عبر عنها بألغاز استطاع سبينوزا أن يحللها، ويخلص إلى نتيجة أعلنها على الملأ وهي أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة ([244]) لأن الأسفار تتحدث عن وقائع وحوادث وقعت بعد موسى بزمن طويل، كما تروي نبأ وفاة موسى ودفنه، وأن أحداً لا يعرف مكان قبره إلى اليوم، وأنه أفضل من كل الأنبياء الذين جاءوا بعده إذا ما قورن بهم ([245]). لقد ضاعت مخطوطات موسى الأصلية، والأسفار التي بين أيدينا لقيت نفس المصير ([246]).
¥