4 – لاهوت التحرير:
وأما فيما يتعلق بالوظيفة الإنسانية للدين فقد بدأ من أمريكا اللاتينية تحت عنوان " لاهوت التحرير " وكان من العوامل الأساسية التي دفعت إلى انتشار هذا اللاهوت اهتمام العالم بقضايا الفقر والجوع فجاء هذا اللاهوت ليتحدث عن مسؤولية الدين تجاه هذه القضايا، وموقفه من المحرومين والمقهورين من البشر.
لقد دفعت الحروب العالمية والمجاعات والكوارث الكونية، وتفاقم الفقر والمرض اللاهوتيين الكنسيين إلى التساؤل عن المهمة التي ينبغي أن يمارسها الدين بإزاء هذه القضايا وعُقد مؤتمران دفعا إلى ظهور علم اللاهوت التحرري:
الأول: مؤتمر أساقفة أمريكا اللاتينية الكاثوليك الذي اجتمع في ميدلين في كولومبيا عام 1974 م.
الثاني: مجلس أساقفة الكنيسة لأمريكا اللاتينية عام 1979 م
وقد ارتبط هذا اللاهوت منذ عام 1975 م بشكل أساسي بقضية تحرير السود ثم بقضية تحرير المرأة. وهو يعكس علم اللاهوت ففي حين يبدأ اللاهوت عادة من الوحي ويتجه إلى الواقع فإن لاهوت التحرير يبدأ من الواقع ويتجه إلى الوحي، ولذلك فإننا نلاحظ أن الواقع الإفريقي المرير هو الذي أنتج لاهوت التحرير. وحيث أن لاهوت التحرير واقعي فهو يرتبط بالإنسان وبالإنسانية إنه " لاهوت الإنسانية " إنه لاهوت عمل في مواجهة الواقع الأليم للبشرية.
ويستند اللاهوت التحرري في ذلك على أقوال المسيح عليه السلام في محاربة الثراء الفاحش كقوله: "إن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله " لوقا 18: 25. كذلك كانت حياة المسيح عليه السلام مشاركة أصيلة للإنسانية المتألمة فقد شفى المرضى وطهر البرص، وفتح أعين العميان وأقام الموتى، وعاش للإنسانية ودافع عنها ولذلك فإن لاهوت التحرير ينقل مفهوم الكنيسة من كونها تعمل لأجل الناس إلى كونها كنيسة الناس فتصبح الكنيسة من تحت وليست من فوق.
وبذلك يكون لاهوت التحرير هو إحياء الجانب الثوري في المسيحية الذي دُفن أكثر من ألف وتسعمائة سنة لحساب الرهبانية، إنه إعادة تثوير للكنيسة للوقوف في وجه الطغيان كما قال المسيح عليه السلام: " لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً " متى 10: 34.
تعقيب:
هذه الحركات التي قدمنا موجزاً عنها بالإضافة إلى الفلسفات البنيوية والتفكيكية هي أبرز المرجعيات التي يتغذى عليها الخطاب العلماني في قراءته للإسلام عموماً والقرآن الكريم خصوصاً، وعلى ضوء ما قرأناه آنفاً من نصوص غربية يمكننا أن نفهم النصوص العلمانية العربية التي مرت معنا كقولهم: " ولذلك لا مانع من انتهاك القيم السائدة والخروج عليها من أجل تقدم المعرفة ([259])، وذلك بهدم الأسوار والحصون التي شيدها الفكر المستقيل والمنغلق على ذاته بسياج دوغمائي مجمَّد ([260]) ولن يتم ذلك إلا بتطبيق منهجية النقد التاريخي على التراث العربي والإسلامي، لا بد أن تسير في نفس الطريق الذي سارت فيه أوربا، ولا بد أن تَهزَّ المسلمين، ولا بد أن يدفعوا الثمن ([261]). فلا بد لنا من إزالة كثير من العقبات الكأداء التي تصرفنا عن سبيل الرشاد سبيل الحداثة ([262])، ولن ينفعنا تحفظَّنا أو توهُّم مقاومة هذا التيار الحداثي انطلاقاً من مقولات مهترئة، وثوابت لا يصدقها العقل، وإن مالت إليها عاطفتنا الدينية ([263]).
وأحسب أنه قد آن لنا أن نقول: لقد قرأ الأوربيون كتابهم المقدس وواقعهم المُجهَض قراءة صحيحة واستطاعوا عبر مئات السنين أن يخلصوا إلى نتائج تتلاءم مع العالم المشهود المُعطَى للإنسان، ودفعوا بعقولهم إلى أقصى ما يمكن لاكتناه حقيقة واستثمار منفعة هذا العالم. وأظن أن ما قاله كل من ديدرو وفولتير يلخص الحقيقة تلخيصاً كافياً ([264]).
والعلمانيون العرب يتطلعون إلى هذا المثال، ويحلمون بهذه الآمال، فهل سينعمون بالوصال؟!
في الحقيقة لم يوفق العلمانيون لإصابة الهدف لـ:
- اختلاف الزمان والمكان.
- اختلاف التاريخ والحضارة.
- اختلاف العنصر الديني والمرجعية القدسية.
¥