فليست حضارتنا هي حضارة القرون الوسطى، وليس في ديننا كهنوت كالكهنوت الكنسي، وليس قرآننا كالعهدين القديم والجديد في التأثر بالصدمات النقدية، وليس في تاريخنا محاكم كمحاكم التفتيش، ولا إبادات عنصرية لشعوب وأمم بأكملها، ولا نهب وامتصاص لخيرات القارات الضعيفة ورميها بين أنياب الجوع والفقر والمرض. ومهما حاول الخطاب العلماني أن يبحث عن روابط قروسطية في تاريخنا لتبرير مشروعاته فإن الحقائق تظل مشرقة لا يمكن حجبها أبداً.
إن أمتنا ليست بحاجة للنموذج الغربي للتنوير لأن القرآن الكريم همه الأول هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور] الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة إبراهيم: آية 1.
] يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً [سورة النساء: آية 174 – 175.
وأمتنا ليست بحاجة للنموذج الكنسي التحرري لأن ذلك جاء كردة فعل على نظام الرهبنة والمثالية المتطرفة والانفصام بين الإنسان والعالم الذي دعا إليه الكهنوت المسيحي، وردة فعل على النظم القمعية والفاشية والرأسمالية التي عاثت في الكون فساداً وقمعاً وإبادة , وانتهكت إنسانية البشر.
ولذلك فإن ما يطرحه الخطاب العلماني ليس لاهوتاً للتحرير بل هو أقرب إلى كونه " ناسوتاً للتدمير " إنه محاولة يائسة لقلب الأخلاق ونسف القيم، والتمرد على الفضيلة، وتجفيف منابع الروح الملتاعة في كيان الإنسان، لأنه إذا كان لاهوت التحرير الكنسي الذي يبدأ من الواقع ثم يعود إلى الوحي – إن كان هناك وحي بالمنظور الكنسي – يعد مخطئاً لأن الوحي لم يهمل الواقع أبداً، فالوحي هدفه الأول إصلاح الإنسان ومن ثم الواقع، لأن الواقع لا يصلح إذا لم يصلح الإنسان، فإن صيحة الخطاب العلماني التحريرية صيحة فاشلة لأنها إن صح أنها تبدأ من الواقع فهي لا تعود إلى الوحي أبداً. ولذلك فما يزعمه الخطاب العلماني من أن منهجه منهج صعودي بعكس الخطاب الديني الهبوطي ([265]) غير صحيح لأن منهجه أيضاً منهج هابط، وكذلك من الوحي إلى الواقع، ولكنه ليس الوحي الإلهي وإنما الوحي النفسي والعقلي وحي الثقافة الغربية.] وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون [سورة الأنعام: آية 121.
إن الدين لا يمكن فصله عن أساسه العقدي وتحويله إلى أيديولوجية ثورية فهذه مخاتلة للعقل الإنساني لأن الإيمان هو القاعدة المتينة للتثوير، والعقيدة هي الجذوة الحية للتحرير، و " تثوير القرآن " ([266]) لا يمكن أن يجدي مع حالة الانفصام بين العمق الإيماني الغيبي والممارسة الدينية الواقعية.
ومن هنا فإن أحلام العلمانيين العرب بأن يكونوا ممثلين لدور فلاسفة التنوير الأوربي في الفضاء الإسلامي من الصعب جداً أن تتحقق لأن الإسلام يملك الحصانة الكافية ضد هذا المشروع، ويحمل المناعة الذاتية التي تجعله يستعصي بشدة على العلمنة.
المطلب الختامي: النتائج
والآن بعد أن استعرضنا موقف المنظومة الفكرية العلمانية من الإسلام، واستنطقنا النصوص من مصادرها الأصلية، وتجنبنا التدخل فيها حتى لا نُتهم بالتجني والتحامل يمكننا أن نشير إلى الخلاصات الآتية التي آل إليها الإسلام في هذه المنظومة:
· الإسلام في المنظومة العلمانية لا يفلت من قواعد التحليل التاريخي والأنتربولوجي والفلسفي، ولذلك يمكن إحالة كثير من شعائره وطقوسه إلى كونها امتداداً للأساطير القديمة.
· كما يمكن بفعل تيار العولمة والحداثة أن ينهار الإسلام ويصبح شيئاً بالياً لا معنى له، ويتبخر مع الريح، ولكن يبقى أنه تجربة تاريخية علينا الاستفادة منها.
¥