هكذا يفعل (ولفنسون) عند وجود كلماتٍ عربية لها ذات الصوت العبري، فإنه ينسبها إلى السامية الأم، ولا ينسبها ـ كما يفعل مثيروا الشبهات ـ إلى العبرية. بل يقول أكثر من ذلك: " ولكن يجب ألا يبالغ الباحث فى مسألة تأثير الآرامية والعبرية في العربية الشمالية، إذ ينبغى أن يحترس من الخطأ فى نسبة بعض الكلمات العربية إلى إحدى أخواتها السامية، ظناً منه أنها منقولة منها، فقد يوجد عدد كبير من الألفاظ له رنة آرامية أو عبرية، وهو في الواقع كان يُستعمل عند العرب قبل أن يحدث الاتصال بين هذه اللغات ..
وقد أشرنا فى هذا الكتاب غير مرة، إلى أن وجود تشابه فى ألفاظ وأساليب لا يدل فى كل الأحوال على اقتباس، بل إثبات الاقتباس يحتاج إلى أدلة أخرى غير التشابه. وقد غفل بعض كبار المستشرقين عن هذه النظرية، فوقعوا فى أغلاط كثيرة، أخذها عنهم صغار الباحثين بدون روية، وقلدوهم فيها تقليداً مطلقاً ". [11]
2. تبادل التأثر والتأثير بين اللغات، قانون اجتماعي إنساني، واقتراض اللغات بعضها من بعض، ظاهرة إنسانية. واللغة العربية ليست بدعاً من اللغات الإنسانية، بل إنها تميزت عنها بالبراعة في تمثل الكلام الأجنبي، ومن ثم صياغته على أوزانها، وإنزاله على أحكامها، وجعله جزءاً لا يتجزأ من أجزائها.
مثلاً كلمة (لجام): معرب لفظ (لكام أو لغام) عن الفارسية. وقد جُمِعت على: (لُجُم)، على وزن: (كُتُب). وصُغِّرت على (لجُيم)، وأتِيَ بالمصدر منها (الإلجام). [12]
ولم يزعم أحد أن الألفاظ التي تدخل لغة ما، ثم تحورها على كيفية النطق عندها، وتجري عليها قوانين لغتها، ويستعملها أبناؤها استعمال غيرها من المفردات .. لم يزعم أحد أن البليغ إذا أوردها في كلامه، تكون محل انتقاد من الآخرين، أو تحط من فصاحة اللسان وتنزل بالكلام عن مرتبة البيان.
هذه الألفاظ تنصهر داخل اللغة مع مرور الزمن، ثم تندرج في ثقافة اللغة التي استقبلتها دون أن يعلم أكثرهم أنها دخيلة قبل مئات (أو آلاف) السنين، وحتى المتخصص باللغة يجد صعوبة بالغة في استخراجها.
والألفاظ المعربة الموجودة في القرآن الكريم، كانت قد دخلت العربية قبل نزوله بمئات السنين، فأصبحت فصيحة من صميم اللسان العربي، تكلم بها بلغاء العرب وفصحاؤهم.
وما دامت فصيحة، فنزول القرآن الكريم بلسان العرب، يقتضي شمولها في ثناياه. [13]
3. أخذ تقعيد أسس المنهج النقدي العلمي لعلم اللغات عقوداً طويلة .. حتى استقر؛ ولهذا يعد هذا العلم من العلوم المعاصرة. وكثير من الكلمات التي عدها العلماء السابقون معربة، أظهرت الدراسات الحديثة أصلها العربي الساميّ الأصيل. فالحبشية والعربية لها أصل واحد (اليمنية القديمة). كما أن بين العربية والعبرية [14] أصل واحد، فالشعوب السامية ـ ذات الأصل اللغوي الواحد ـ كلها قدِمَت من شبه جزيرة العرب .. ومثلها اللهجة النبطية، فالنبط أصولهم عربية على الأرجح. ولا يجوز نسيان الأثر اللغوي لحضارة العرب البائدة، التي كانت حضارة كبرى قبل اندثارها ـ كما تدل الاكتشافات الأثرية ـ فمن غير المستبعَد أن تكون أدخلت بعض الألفاظ إلى الحضارات المجاورة ـ كالفارسية ـ وبعد اندثارها بقيت تلك الألفاظ، فظن الناس أنها ذات أصل غير عربي .. [15]
مثلاً: كلمة (غساقاً) بمعنى: البارد المنتن. ذكر أكثر العلماء أن أصلها تركي .. وبعد التحقيق وفق أسس البحث العلمي، تبين بالأدلة القطعية أنها عربية أصيلة. [16]
ومثلها كلمة: " منسأة " بمعنى عصى، فهي عربية أصيلة. جاء في معجم مقاييس اللغة: " نَسأْتُ ناقتي .. رفَقت بها في السَّير. ونَسأْتها: ضربتها بالمِنسأة: العَصَا. وهذا أَقْيَسُ؛ لأنَّ العصا كأنَّه يُبعَد بها الشَّيءُ ويُدفَع ". [17]
4. بالنظر إلى الكلمات المذكورة تجد أن عدداً منها كان أسماء شخصيات وأماكن ـ وما يتعلق بها ـ .. لا يمكن إلا أن تُسمَّى باسمها، ولا يوجد عاقل يطلب تسميتها بغير اسمها، بل لو فعل القرآن الكريم ذلك، لعدَّه خصومه مثلبة!
ولو قمنا بجمع الكلمات المزعوم أنها دخيلة معرَّبة، وهي مائة كلمة معربة في القرآن الكريم ـ كما ذكرت تلك الصفحات التنصيرية ـ، وبعمل نسبة مع عدد كلمات القرآن الكريم من غير المكرر، وهي: (17458) كلمة، [18] يكون الناتج: " 99.427 % ".
¥