2 - أن تعدد القراءات القرآنية راجع إلى خصوصية الخط العربي (بغير نقط أو ضبط) بحيث يمكن قراءة اللفظ المكتوب بصور صوتية مختلفة متغيرة المعني و الإعراب.
"إذن فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط واختلاف الحركات في المحصول الموحد القالب من الحروف الصامتة كانا هما السبب الأول في نشأة حركة اختلاف القراءات في نص لم يكن منقوطاً أصلاً، أو لم تتحر الدقة في نقطه أو تحريكه " (16).
3 - أن التابعين وعلماء المسلمين قد عملوا بتفكيرهم المحض في تغيير قراءات قرآنية بناء علي ما يسميه "ملاحظات موضوعية " أو "خلافات فقهية "؛ (17) فالنص القرآني- في نظر"جولد تسيهر" قد تعرض بعد كتابته لعمل الأيدي و العقول المسلمة بالتغيير والاختلاف نتيجة لما تعرض له المسلمون من خلاف فقهي أو نظرات حضارية.
وهذه الملاحظات الثلاثة هي التي تدور حولها بحوث المستشرقين في القراءات، فهو يعترف أنه يسير علي نهج (زعيمنا) تيودور نولدكه theodor Noldeke في كتابة الأصيل البكر (تاريخ القرآن) (18) ومثل هذا الاعتراف يسوقه"جفري" في مقدمة كتاب (المصاحف) لابن أبي داود، الذي يدعى فيه أن القرآن قد تعرض للتبديل بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم.
أدلة واهية:
غير أن المتأمل في هذه الملاحظات لا يخيل إليه أنها تثبت أمام الوعي الصحيح بتاريخ القرآن أو أسلوبه، فلم يعرف في تاريخ القرآن خلاف جوهري في قراءاته، وقد حصر العلماء المسلمون اختلاف القراءات في سبعة وجوه - علي نحو ما سيأتي إن شاء الله - لا يشير واحد منها إلى هذا الاضطراب المدعى المزعوم. وكل ما حدث تشدد بعض القراء لحروفهم حفاظاً علي ما سمعه من ثقات الصحابة.
والملاحظ أن هؤلاء المستشرقين يستدلون أحياناً بقراءات ضعيفة وواهية في نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتغافلون عن الحديث المتواتر الذي قدمنا؛ وهو قول النبي صلى الله عليه و سلم (نزل القرآن علي سبعة أحرف….) ومن أمثلة هذه القراءات الواهية، قراءة (تستكثرون) بدلاً من (تستكبرون) في قوله تعالى:
? وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ?وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُون ? (الأعراف/48)
ذكرها (جولد تسيهر) استدلالاً علي " الاختلاف في تحلية الهيكل المرسوم بالنقط" مع أنها كما يقول د. النجار " لم تعتمد في القراءات السبع ولا الأربع عشرة بل هي قراءة منكرة، ولا يعرف علي وجه التحديد من قرأ بذلك وحسبك هذا دليلاً علي أن الخط لم يكن هو العمدة في صحة القراءة " (20) إلا أنها لا تناقض فيها؛ إذ تحمل علي عطف التفسير.
والأسخف من ذلك أنه يذكر قراءة (أباه) بدلا من (إياه) في قوله تعالى:
? وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وعَدَهَا إِيَّاهُ ? (التوبة/114)
قائلاً: " ومن الغريب أنها قراءة حماد الراوية " (21)، مع معرفته بمنزلة حماد الراوية من هذا العلم ومن الثقة، فهو الذي أطبق علماء الأمة علي الطعن في روايته، فقد قال فيه أبو عمرو بن العلاء: " العجب لمن يأخذ عن حماد، كان يلحن و يكذب و يكسر" (22)، وقد ضعفه أبو حاتم السجستاني (اللغوي) والمفضل الضبي وغيرهما. (23) وهو الذي نظر في المصحف فقرأ: " حتى يعطوا الخربة عن يد " وفسره بأنه (السرقة) " فكان احتجاجه للخطأ أعجب من خطئه " (24).
وما ذكره الدارسون والعلماء عن حماد دليل قاطع علي اهتمام العلماء بالرواية وذمهم الاكتفاء بالمصحف، وهي قاصمة الظهر بالنسبة لمزاعم (زيهر)، فقد روي صاحب (ما يقع فيه التصحيف): " أن حماداً كان حفظ القرآن من المصحف، فكان يصحف نيفا وثلاثين حرفاً " (25).
ولو أن هؤلاء المستشرقين آمنوا- كما آمنا- بالله ورسوله و الكتاب الذي أنزل علي رسوله لأراحوا أنفسهم من مشقة الكذب علي الله وقلب الحقائق التاريخية الثابتة، ولو أنهم شغلوا أنفسهم بالتفتيش في صحف قومهم التي امتلأت كذبا وزوراً وسفاهة وحمقاً واجتراء علي محارم الله لأغناهم ذلك عن الوقوع فيما وقعوا فيه من سوء الظن وسوء الفهم، و تالله لقد صدق عليهم قول النبي صلي الله عليه وسلم:" يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عينه" (26). وتالله ما هي قذاة، ولكن خيل للمغرورين المحاسن سيئات، وتخفيف الله ورحمته بعباده اضطرابا
¥