ذكرنا اثنين من أئمة القراءات وأسانيد لهما، ونصل كلامنا بغيرهما من الأئمة مع بعض ما ذكره علماء الأمة من توثيقهم والثناء عليهم، لنعرف مقدار سلفنا الصالح ويتحدد لنا: هل نستطيع الاعتماد علي نقله وضبطه للقرآن الكريم؟
ت - ابن كثير المكي: (ت120 هـ):
سمع مجاهد بن جبر عن ابن عباس. ولم يخالف مجاهداً في شئ من قراءته (14) وهو شيخ ثقة، لقي من الصحابة عبد الله بن الزبير وأبا أيوب الأنصاري، وأنس بن مالك رضي الله عنهم (15). وقد أجمع أهل مكة علي قراءة ابن كثير (16).
ث - عاصم بن أبي النجود (ت 127 هـ):
وكان متقدماً في زمانه، معروفاً بالإمامة (17)، وكان إماماً في القراءات والحديث (18)، وقال العجلي: "عاصم بن بهدلة صاحب سنة وقراءة، وكان رأساً في القرآن" (19).
ج - الكسائي (ت 189 هـ):
وهو إمام الناس في عصره في القراءة والعربية، كان أوحد الناس في القرآن (20) وقال عنه ابن معين: " ما رأت عيني أصدق لهجة من الكسائي " (21)
ح - أبو عمرو بن العلاء (ت 154):
وهو أحد القراء الكبار، وأكثر القراء شيوخاً (22) كان متقدماً متمسكاً بالآثار (23)، قال عنه إبراهيم الحربي: " كان أبو عمرو بن العلاء من أهل السنة" (24)، كان شعبة بن الحجاج يقول:" تمسك بقراءة أبي عمرو، فإنها ستكون للناس إسناداً " (25).
خ-عبد الله بن عامر (ت 118):
" وهو أعلي أئمة القراءة سنداً، وأقدمهم هجرة، ومن كبار التابعين، الذين أخذوا عن الصحابة كعثمان ابن عفان، وأبي الدرداء، ومعاوية، وفضالة بن عبيد " (62).
ولا يستطيع المرء- بعد هذه الأدلة - أن يرتاب في دقة القراء وأمانتهم وتلمسهم كافة الوسائل الدقيقة لنقل القرآن، والطرق الصحيحة في حمله، وتسقط فرية"جولد تسيهر" كما تحطمت فرى كثيرة أخري علي صخرة القرآن وإنما اللافت للنظر- بعد هذا كله- أمران، تنبه إلى أحدهما بعض الباحثين وهداني الله تعالى إلى الآخر بفضله ومنه:
أما الأول: فهو أن كثيراً من الدارسين (العرب) المحدثين قد وقعوا -عن جهل وغير عمد- فيما وقع فيه "جولد تسيهر" ومن هؤلاء د. علي عبد الواحد وافي في كتابه (فقه اللغة) إذ يقول: " يرجع بعض مظاهر الاختلاف في قراءات القرآن إلى اختلافهم في قراءة الكلمة حسب رسمها في المصحف العثماني، فقد كان الرسم مجرداً من الإعجام والشكل، ولذلك كان يمكن قراءة بعض الكلمات علي وجوه مختلفة " (27) وإذا كنا نود أن يكون د. وافي قد راجع نفسه في هذا الآمر- وهذه أخلاق العلماء - بعدما تنبه إليه بعض الدارسين كالأستاذ عبد الفتاح شلبي (28)، فإن آخرين نلمس عندهم هذا المعني، فقد عبر عن هذا المعني الأستاذ فؤاد سزكين بطريقة مبتسرة في كتابه " تاريخ التراث العربي"، (29) وردد كثير من الدارسين مثل هذا القول- بحسن نية منهم في الغالب - ولعل توارد مثل هذه الترهات علي ألسنة الدارسين كانت من أهم العوامل في استجابتي لداعي النفس بالكتابة عنه.
وأما الأمر الثاني: فهو أن مزاعم (تسيهر) وأستاذه (نولدكه) ليست جديدة علي الفكر الإسلامي، فلقد عقد الشيخ أبو بكر الباقلاني (ت 413 هـ) فصلاً في كتابه (نكت الانتصار لنقل القرآن) لمناقشة هذا الزعم وإحقاق الحق فيه، وأجدني مضطراً إلى نقل صفحة كاملة منه إن لم يكن إثباتاً لوجود هذه القضية من زمن، فعلي سبيل التلذذ بذكر القرآن وقراءاته " فتطويل أخبار الهوى لذة أخري" قال القاضي رحمه الله: " لم يختلف القراء السبعة في أن القراءات التي صار بعضهم إليها قرآن منزل من عند الله تعالى، وأنها تنقل خلفاً عن سلف، وأنهم أخذوها عن طريق الرواية، وربما تخرص الجاهل الضعيف من المنتسبين إلى علم القرآن بأن اختلاف القراء إنما صاروا إليه من جهة الاجتهاد وإعمال الفكر في حمل الكلام علي ما هو (أليق) وهذا قول باطل مرغوب عنه،لا يعرف قائله ولا يدري منتصب لنصرته، ولا منصف يرجع إليه فيه، لأن الظاهر المتوافر المشهور أنه إنما أخذوا القرآن رواية، لأنهم كانوا رحمهم الله يمتنعون من القراءة بما لم يسمعوه، ويمتنعون أيضاً من رد ما يشكون فيه خوفاً أن يكون قد قرئ به، فكيف تكون هذه حالهم وهم يستجيزون القراءة بالاختيار لولا حيرة قائل هذا وجهله؟ " (30).
¥